"فتنمة" المعارك الأميركية
لو راجعنا تحليلات الربيع في الصحافة العالمية والعربية، سنجد مصطلح "الصيف الساخن"، وقد تكرر في كثير من الكتابات التي تناولت أبعاد التوتر الناشب بين الولايات المتحدة وإيران. في اعتقادي أن المعارك التي اندلعت الصيف الماضي بين "حزب الله" وإسرائيل قد أرخت بذكرياتها على التحليلات، فتصور البعض بالقياس أن صيف 2007 سيكشف بدوره عن أحداث ساخنة. أما وقد عبر الصيف هادئاً، فإنه من الملاحظ أن التحليلات بدأت تمد الأبصار إلى خريف هذا العام.
استشراف المواعيد المرشحة للصدام الساخن بين الأميركيين والإيرانيين بدأ يتركز في شهر نوفمبر 2007، فيما عدا كاتب واحد في مصر قرر أن يمد الموعد في لهجة يائسة من انفجار الأحداث المتوقعة فقال: "ما لم يقع الهجوم الأميركي على إيران حتى شهر فبراير 2008 فإنه لن يقع بعد ذلك لأن الإدارة ستنشغل بالانتخابات الرئاسية". هذه التوقعات تعني أن معظم المحللين ما زالوا يعتقدون أن أسباب الصدام العسكري قائمة، وهم بالتالي يتعاملون مع المواعيد دون التساؤل عن احتمال وقوع تغير في وجهة النظر الأميركية يؤدي إلى عبور الخريف في هدوء الصيف. هل يمكن أن نتصور- في ضوء استحالة الإمساك بالنوايا الأميركية على نحو قطعي- أن يكون منهج فتنمة المعارك الأميركية قد عاد ليسيطر على أذهان صنّاع القرار الأميركيين؟ إن هذا المنهج الذي طبق في فيتنام من خلال توكيل طرف فيتنامي حليف لإدارة المعارك في فيتنام الشمالية وأتباعها من قوات المتمردين في فيتنام الجنوبية، يبدو وارداً مرة أخرى في الشرق الأوسط تجاه إيران، حيث إنه يقلل التكلفة البشرية الأميركية بل والتكلفة الاقتصادية أيضاً ويلقيها على الطرف الإقليمي.
لقد أثبتت تجربة الحرب العراقية- الإيرانية نجاح نموذج الحرب بالوكالة أو منهج فتنمة المعارك حيث نجحت الولايات المتحدة في وقف المد الإيراني وشغل النظام الجديد بالحرب الطاحنة مع نظام صدام، عن أهدافه في تصدير الثورة خارج حدوده. بالطبع فإن الذهن يتجه مباشرة إلى إسرائيل للقيام بالدور المطلوب، وهو الأمر المرجح في ضوء الخريطة السياسية الراهنة للشرق الأوسط والتي تخلو من كيان مثل العراق لديه القدرة السكانية والاقتصادية ونظام الحكم المتطلع إلى أداء الأدوار البطولية.
إن السؤال هنا يصبح: هل تعض الإدارة الأميركية اليوم بنان الندم لقيامها بنفسها بتدمير نظام صدام حسين بكل مواصفاته النموذجية التي أهلته من قبل لأداء الدور المطلوب والذي كان يمكن- لو استمر إلى اليوم- أن يعاود القيام بنفس الدور وبذات الكفاءة؟ إن دواعي الندم الأميركي المفترض عندي، يمكن أن تتصل أيضاً بالفراغ العراقي المخيف الذي ولدته الإدارة بيديها، وهو الفراغ الذي ينادي إيران أن تملأه خاصة في الإقليم الجنوبي، فضلاً عن إدراك الإدارة أن الوكيل الإسرائيلي يفتقر إلى الطابع العربي الذي كان يتميز به نظام صدام، والذي مكنه من كسب مشاعر الشارع العربي خلال حربه مع إيران، وتجييش التيارات القومية لإضفاء الشرعية على حربه ضد الإيرانيين وإذكاء مشاعر الرفض والكراهية لهم في أنحاء الشارع العربي بطبقاته المختلفة.
ورغم ذلك الفارق بين الوكيل الإسرائيلي والوكيل العربي، فإن هذا الاعتبار الشعبي لن يكون اعتباراً حاسماً يمنع الإدارة الأميركية من استخدام إسرائيل المليئة بالمخاوف من الخيار النووي الإيراني وتجلياته العسكرية. لو صح افتراضنا بأن إدارة بوش قد تخلت عن خيار التدخل العسكري ضد إيران على نحو مباشر، وأنها أصبحت تفضل عملية عسكرية بمنهج "الفتنمة" تقوم بها إسرائيل لغياب طرف عربي مؤهل، فإن الشهر المرشح في معظم التحليلات وهو نوفمبر آخر أشهر الخريف، لا يبدو الشهر المناسب للقيام بالهجوم، نظراً لترجيح عقد مؤتمر السلام الذي دعا إليه الرئيس بوش في غضونه. وإذا كان هدف المؤتمر هو كسب شعبية أميركية في الشارع العربي فإن هذه الغاية تتحقق بعقد المؤتمر بعيداً عن دخان المعارك، وبعد ذلك يمكن اندلاع الحريق بعد كسب المشاعر العربية وتحييدها تجاه إيران.