المقاومة العربية وتصدع اليمين الأميركي
في إنجلترا، بلد الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، يعترف علناً وزير حربها بأن الجيش البريطاني تمدّد أكثر من اللازم بخوضه حربين في آن واحد؛ في العراق وفي أفغانستان. وبنبرة تثير الشفقة، يطالب الوزير بدعم شبابه المحاربين المنهكين مادياً ومعنوياً. وفي الولايات المتحدة تتوالى الاستقالات في خلية اليمين المسيحي الأصولي الذي كان يوجّه القرارات والسياسات الأميركية المتعلقة بالوطن العربي والعالم الإسلامي.
في كلتا الحالتين هناك دلائل على تراجع حقيقي لما يعرف باليمين الجديد، خصوصاً بشقّه الأصولي المتطرف. لكن ونحن نشاهد مظاهر العجز والتراجعات في كلا البلدين، وإذ يقترب موعد رحيل الجماعة التي أمسكت بخناق واشنطن ومؤسساتها، نحتاج أن نتنبّه للنقاط التالية:
أولاً: إن اليمين الأميركي المتطرف له وجود ضخم ومتشعب ومتجذر في ثلاث ساحات مفصلية كبرى؛ هي السياسة والاقتصاد والإعلام. فهذا التيار له أصوات قوية مسموعة في المعارضة "الجمهورية" داخل مجلسي الكونجرس، وهو لا يزال يسيطر على "الحزب الجمهوري". وفي الإعلام تبثُّ خمسة آلاف محطة إذاعية ومائة محطة تلفزيونية كل ما يقوله القادة والمبشرون الدينيون المنتمون لهذا التيار. وعلى مدار الأسبوع يستمع مائة وأربعون مليون أميركي لرسائل أولئك القادة التي يختلط فيها الدين بالسياسة وتخترقها أيديولوجيات العنف والكراهية للإسلام والمسلمين تحت عباءة "محاربة الإرهاب"، وبذريعة "دعم إسرائيل التي بدون وجودها وسيطرتها على القدس لن يستطيع العالم الوصول إلى يوم رجوع المسيح لتخليص العالم"! ولو تذكرنا قول "باسكال"، فإن أكبر الجرائم وأشدها خطورة هي التي ترتكب باسم الدين، لأدركنا المخاطر والأهوال التي تنتظرنا نحن العرب والمسلمين بسبب هيمنة ذلك التيار على ساحات الدين والإعلام والسياسة.
ثانياً: في الاقتصاد، حيث يتبنى تيار اليمين المسيحي فلسفة الحرية الكاملة لاقتصاد السوق، أي فلسفة الرأسمالية العولمية المتوحّشة، بما فيها هيمنة الشركات العابرة للقارات على القرارات الدولية والوطنية. ولأننا في قلب اقتصاد العالم وآلته الإنتاجية الصناعية، من خلال امتلاكنا لثروة نفطية هائلة، فنحن قابلون للتأثر بالسلبيات الناشئة عن أي شطط في تطبيق هذه الفلسفة. ولعل غزو العراق، والصّراع على الصومال الذي يعتقد بأنه يملك ثروة نفطية، والتواجد الأجنبي في الخليج... هي بواكير تلك الفلسفة في حياتنا.
ثالثاً: رغم أن ظلال ذلك التيار تمتد من أقصى الاعتدال إلى أقصى التطرف، فان جزءاً كبيراً منه هو خطر للغاية، فهذا تيار يؤمن بالعنف، وبالتدخل الاستباقي، وبمعاقبة الدول والشعوب التي لا تسير في الرّكاب الأميركي المعولم. لكن الأخطر هو أن متطرفي ذلك التيار وصلوا إلى حدّ إباحة قتل "غير المؤمنين" he infidele ومن بينهم "المتمردون العراقيون" و"الإرهابيون الفلسطينيون". ولو عرفنا أن أميركا تمتنع حتى الآن عن تقديم تعريف للإرهاب، لأدركنا خطورة هذه الأيديولوجية الدينية العنيفة.
رابعاً: وهذه هي النقطة المحورية، فإن العرب يستنكرون، وبموضوعية تامة ورأس مرفوع، أن ينسبوا للمقاومات العربية في العراق وفلسطين وجنوب لبنان، أي مساهمة في أحداث لندن وواشنطن. إن دماء الذين ماتوا في ساحات مقاومة الاحتلال الأنجلو- أميركي والاستعمار الصهيوني، لم تذهب عبثاً. وسيسجّل التاريخ أن مشروعاً عولمياً ضخماً قد تصدع في أولى مراحله على أرض الأقطار الثلاثة. وستكون كارثة فكرية سياسية في فهم التاريخ لو فهمنا الأمر على غير هذه الصورة.
لكننا في الوقت نفسه يجب أن ندرك التالي: لقد ذهب رئيس وزراء بريطانيا السابق منكس الرأس، وقريباً سينتهي عهد قائد واشنطن الذي ينام كل مساء مبكراً حتى ولو كان العالم من حوله يحترق! لكن الصّراع المرير ضدّ من لا يضمرون الخير للعرب والمسلمين سيستمر، ومن هنا أهمية دعم المقاومات والممانعات في كل شبر من أرضنا.