"جوني باشي... يا عراق؟"، تعني باللغة الكردية: "هل أنت بخير... يا عراق؟"، وهذا عنوان قصيدة شعبية للشاعرة الكردية مَلَك كاوان، مطلعها: "أبدي باسم الله وأهديكم تحيه، جوني باشي، من جبل سنجار للحلوة أم قصرْ"... "حاولت أكتب أحبك يا عراق، نزلت دموعي على الورقة حِبِرْ"... "نزلت دموعي بألم فوق السطور، مِنْ شِفِت كم جثه مشتاقة لقبرْ". ألقت مَلَك كاوان القصيدة في أمسية شعرية في جامعة الموصل بلكنة فريدة تمزج بين لهجتي مدينتي السليمانية الكردية والبصرة العربية. وقبل أن تنتهي الأمسية كانت شبكة الإنترنت قد نقلت القصيدة بالنص والصوت حول العالم. وتزخر مواقع الإنترنت بقصائد عشرات الشعراء العراقيين الشعبيين، ومن أحدثها قصيدة "فوز العراق" التي يصف فيها الشاعر ماضي أحمد كيف تحولت قلوب العراقيين إلى شاشات التلفزيون يوم فوز المنتخب العراقي ببطولة آسيا لكرة القدم. يسمّي العراقيون كرة القدم "طوبه"، ويسخر الشاعر من حكومة الاحتلال: "حكومتنا شُغلها تنغّص الأفراح، فدوى تروح للطوبة الحكومات"! ويذكر الشاعر جمال الأزبجي، من الناصرية جنوب العراق، في قصيدته "رَفعات العلم"، أن العلم العراقي كان يُرفع مرة واحدة في الأسبوع، والآن "الحمد لله تغير الحال، ظَل على الجثث يوميه مرفوع". ولكثرة "ما يروح ويرجع الموت، ما ظلّت بعد للموت هيبه"! وفي قصيدة "شجاك يا وطن"؟ أي "ماذا جرى لك يا وطن"؟ يخاطب الشاعر عبد الحسين الحلفي العراق بتهكم مرير: "كتبت اسمك طلاسم تطرد الشيطان، ومشى الشيطان عني وصِرِتْ شيطاني"... "إذنْ واجب علينا نغير الأسماء، تصير انت المواطن والوطن آني"! وأعتذرُ للقارئ عن اجتزاء مقاطع الشعر المكتوبة بلهجة سكان جنوب العراق. فكيف يمكن "تعريب" قصيدة "الوطن"، وفيها يصف شاعر البصرة حسين الكطراني العراق الغارق في بحر دم "من زاخو للفاو"، مع ذلك يراه كأنه وردة حمراء "أشوفك يا وطن جن ورده حمره"؟ وأي "تعريب" ينقل حنان الكطراني نحو وطنه الذي يقول عنه: "يدفعوني على صخره وآنه مجروح، وأخاف من الجرح ينلجم صخره"؟ أي يخاف أن يخدش جُرحُه صخرَ الوطن. أو عندما يصوّر كيف يجفل من الشوق للوطن في الغربة حتى يتصور البلابل فوقه "تصيح بصره"! ولم يخطر ببالي حتى في أحلام اليقظة التي تدور كلها حول العراق أن الإنترنت ستصبح أداة العراقيين الرئيسية في تأليف وتبادل النكات. وتروى نكتة عراقية مريرة في الإنترنت أن هندياً استيقظ من نومه فزعاً يصرخ: "نَهي ربي نَهي"، أي "لا يا ربي لا". وعندما سألوه عما حدث قال: "حلمت أني عراقي"! وكثير من النكات موضوعها الرئيس جلال الطالباني، وتذكر آخر نكتة عنه أن الطلاب سألوه عن مكرمته لهم في العام الدراسي الجديد، فوعدهم بأن يوزع عليهم النتائج قبل الامتحانات! وقد تفسر النكتة لماذا لا يستعيد العراق سيادته في شبكة الإنترنت. فالحكومة العراقية، بما في ذلك رئاسة الجمهورية، تستخدم عناوين الإنترنت العامة التي يستخدمها الناس العاديون، والشركات والمنظمات. وما يزال البلد محروماً من استخدام ما تُسمى "الشفرة العليا لمجال البلدان" التي تتكون من حرفين يحددان هوية كل دولة. تتكون شفرة العراق من حرفي (iq). ويرمز حرفا (iq) أيضاً لمُعامل الذكاء الذي يقاس بتقسيم السن العقلي للشخص على عُمره، وضرب حاصل القسمة بمئة. ويفسر هذا لماذا يخشى المسؤولون العراقيون من استعادة هوية الدولة في الإنترنت! وهل هناك أكثر من العراق والعراقيين في احتلال العناوين الرئيسية في الإنترنت منذ 4 سنوات؟ هذه المفارقة المدهشة لم تكن لتخطر على بالي، عندما كتبت تقريراً من واشنطن في صحيفة "الحياة" في 4 يونيو عام 1993 بعنوان "أربعة ملايين عالم يتبادلون الأحاديث اليومية والمعلومات الفورية عبر شبكة الشبكات". تضمن التقرير حديث عالمة فيزياء الفضاء المصرية مها عاشور عبد الله، وعالم الرياضيات اللبناني مايكل عطيّة عن استخدام "الإنترنت" للاتصال الفوري وتبادل المعلومات مع زملائهم حول العالم. من كان يتوقع آنذاك أن تنبض شبكة الإنترنت في مطلع القرن الحادي والعشرين بقلوب العراقيين الذين خنقهم أقسى أنواع الحظر الدولي في القرن العشرين؟ واليوم يتضمن الدليل الدولي لعناوين مواقع اليوميات على الإنترنت أكثر من 30 موقعاً عراقياً. والعدد الحقيقي على حد تقديري أكثر من هذا. يُطلق على مواقع اليوميات المنشورة في الإنترنت اسم blogs والكلمة منحوتة من دفتر اليوميات في السفن. وقد أهمل الدليل دفاتر يوميات العراقيين بالعربية، أو اللغات الأخرى، واقتصر على ذكر المواقع بالإنجليزية، وبينها موقع يوميات "العمّة نجمه" الذي يحمل اسم "نجمه من الموصل"، وموقع "ضريح لينين" الذي تزينه صورة الزعيم الشيوعي، ويذكر محرره "لينين" أنه ينشر المواد اليسارية فقط، ولا ينشر إعلانات عن أقراص "فياجرا"! وأغرب من ذلك موقع يوميات "زوجة عراقية عُصابية" تدّعي محررته أنها موظفة في "المنطقة الخضراء"، وتذكر أنها الزوجة الثانية لعراقي، تُسميه "حُبّي" يعمل في المقاولات في مناطق القتال في العراق! ويشير اتجاه بعض مواقع يوميات الإنترنت المذكورة في الدليل إلى أنها قد تكون مدعمة من قبل المحتلين. وقد كشفت منظمة "الشبكة المفتوحة" opennet التي تدافع عن حرية التعبير في الإنترنت، أن وزارة الدفاع الأميركية أنفقت مبلغ 165 مليون دولار، لدعم الشبكة وإنشاء "مقاهي الإنترنت" في العراق، والتي يبلغ عددها 170 مقهى. وتعود مشكلة من يعتقد أن الأميركيين يملكون السلطة المطلقة على الإنترنت، إلى عجزهم عن إدراك أن العقل ليس في الإنترنت، بل "العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل"، حسب القول المأثور. يمكن معرفة ذلك إذا علمنا أن أكثر مواقع يوميات الإنترنت العراقية شهرة وشعبية حول العالم، هي تلك التي تناهض الاحتلال، وفي مقدمتها موقع "بغداد تحترق". تحرر الموقع فتاة بغدادية في العشرينات من العمر تكتب باسم مستعار "دورة النهر" riverbend. وصدرت يومياتها التي شرعت في كتابتها منذ عام 2003 في ثلاث كتب بالإنجليزية، وجرى تحويلها إلى مسرحيات عرضتها المسارح العالمية، وقدّم لها عدد من أشهر نجوم السينما والأدب. وفي 11 مايو الماضي نشرت صحف عالمية عدة آخر مقالة لها بعنوان "وداعاً بغداد"، ذكرت فيها أن أسرتها قررت بعد تفكير دام أكثر من عام مغادرة العراق، وهي لا تعلم إذا كان ما خلفوه وراءهم، بما في ذلك منزلهم، سيكون موجوداً عندما تكتب لهم العودة. وتنقل الفتاة البغدادية مشاعر أكثر من 4 ملايين نازح عراقي يحسون "بظلم لا يُطاق، لأن عليهم مغادرة بلدهم، بسبب قرار شخص أبله قرر أن يغزوه". وتذكر "صعوبة تحديد ما هو الأكثر إثارة للفزع: سيارة مفخخة، ومليشيا، أو أن تترك وراءك كل ما تعرف وتحب، وتذهب إلى مكان غير محدد ومستقبل لا شيء فيه مؤكد".