مازالت منطقة المغرب العربي، أو الشمال الأفريقي العربي تضج بالشكوى من تجاهل أو سوء الفهم السائد عند "المشارقة" تجاههم، خاصة تجاه مفكريهم البارزين، أو أوضاعهم ذات الطابع الخاص، وما كدنا نعبر ونحن في ضيافة "نواقشوط"- ما دام أصلها "نواق الشط"- عن انبهارنا بالمثال الموريتاني في تحقيق الديمقراطية، حتى وقعنا في العتاب عن سوء فهم المشرق للأوضاع الاجتماعية، ومسايرة الكثيرين من المشارقة للفهم العربي السائد عن أوضاع "الرق" في موريتانيا! رغم انشغال الإدارة الموريتانية كلها بالسيول التي اكتسحت الجنوب الشرقي بفعل أمطار الصيف الاستثنائية. ومنذ اللحظات الأولى بدأ حرص المثقفين والنشطاء الموريتانيين على الحضور لتوصيل رسائلهم إلى "أهل المشرق"، بل وأحياناً لتبادل الحوار فيما بينهم في "رسائل" داخلية من نوع آخر. وبدت الخريطة السياسية واضحة لنا رغم ضيق الوقت المؤسف، ومنذ البداية يتبين المرة اتجاه لافت عن وجود قوة لا يستهان بها تحت لافتة "المستقلين" بين التيارات المختلفة من مثقفين ونشطاء وسياسيين، فالأخ محمد سالم ولد الداه مدير المركز العربي الأفريقي للإعلام والتنمية- منظم الندوة- يعرب عن استقلاليته، كما أن رئيس الوزراء نفسه "الزين ولد زيدان"" يعرب في ترحيبه بنا بمقر الرئاسة عن الاتجاه نفسه، رغم أن هذه الاستقلالية المنتشرة بوفرة، لا تطمئن الكثيرين وإن وسعت دائرة الحوار حول المستقبل القريب الذي يبدو للبعض أيضاً مليئاً بالاحتمالات.. تخوفاً من دور "هادئ" للعسكريين. من ناحية أخرى بدت الخريطة السياسية مفعمة بالحيوية، فقد ركبنا الطائرة من القاهرة وعدد الأحزاب في موريتانيا لا يتجاوز بضعاً وثلاثين حزباً، لنصل إلى نواقشوط وقد بلغت بضعاً وخمسين (بعد تصديق الحكم على عدد جديد)، وفي مقدمتهم "الحزب الإسلامي" باسم "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية"..! إذن فالسؤال الآن ليس فقط عن التيارات السياسية التي تغلي بها موريتانيا، بل عن الهيكل السياسي الذي يستوعب هذه التيارات؟ وقد يفهم القارئ الكثير من القليل الذي وصلنا، فنحن أمام رئيس جمهورية (ولد الشيخ عبد الله) نجح بنسبة 52% كشخصية مستقلة وممثلاً للمستقلين سواء الوافدون من الحزب الحاكم السابق أو ممن لم يرتضوا أحزاب المعارضة، وقد قام الرئيس الموريتاني المنتخب بخطوات لتأمين التوازن الجديد في البلاد، بالغة الذكاء، زاخرة بالنوايا الحسنة، فعيّن أحد منافسيه، وإن لم يكن الرئيسي، رئيساً للوزراء "الزين ولد زيدان"، والمنافس الثالث رئيساً للبرلمان "مسعود ولد بلخير"، وهو البرلمان الذي يضم 10% من قوى يسارية، وإنْ قاطعه ناصريون وقوميون متشددون، وقبل به جناح من الإسلاميين. هذه خريطة أولية- غير مدققة تماماً لقصر الزيارة- ولكنها إذا أضيف إليها الإعلان عن التصديق على الأحزاب الجديدة بعد أشهر من تشكيل الدولة الجديد، وضم القائمة للحزب الإسلامي الإصلاحي، نكون أمام حوالي تسعة أحزاب فاعلة في الحياة السياسية الموريتانية، رغم القول بقوة حضور المستقلين؟ ولم يخل ذلك بدوره من سماع أصوات أخرى، تهتف بحياة صدام حسين، أو تتحدث عن عسف اعتقالات غير عادلة لإسلاميين، أو قوميين يتساءلون عن طبيعة هذه الخريطة التي تبدو مرسومة بعناية لضمان مستقبل مختلف، يسعى فيه ما يسمى بالاستقلاليين الكثر، لدفع الرئيس "الاستقلالي" إلى إعلان حزبه أو دعم حزب ممثل له إزاء صدور قانون يمنع الرئيس من رئاسة أي حزب! وتصور هذه النظرة التشاؤمية إمكان عودة البلاد إلى "سيطرة" النخبة القديمة بوسائل أخرى، أو بدعم العسكريين؛ لطمأنة مصالح من يهمهم الأمر في الخارج والداخل! نجحت موريتانيا حتى الآن في اختطاف البريق من المشرق المتهاوي، أو بالأحرى، في كسر غرور النموذج المشرقي بعد سقوط مشروع الدولة الوطنية "هناك". وموريتانيا التي تحسب على الفقراء جداً بين الدول النامية، غنية أصلاً بالثروة السمكية المسروقة من شواطئها الأطلنطية بأساطيل تجارية عالمية، كما أنها غنية بالفوسفات والحديد والمثقفين! فضلاً عن اكتشافات البترول التي تتدافع إليها الشركات الأميركية والفرنسية، بل والصينية، مما يثير قلق كثير من الموريتانيين وليس سعادتهم المتوقعة، لأنهم يرون في ذلك خلفية الصراع الدائر لرسم الخريطة التي نتحدث عنها في السياسة الموريتانية. قد يسخر البعض من مدى واقعية آراء مشاركين ليبيين في الندوة عن تمثيل الشعب، بالشعب... الخ. إزاء الواقع الليبي نفسه مقارناً بتجربة زاخرة بالتمثيل كما تطرح التجربة الموريتانية على الأقل حتى الآن. لذلك فإن ما ساد في الندوة عملياً، بدأ بخطاب لسمير أمين عن واقع البعد العولمي وتأثيره الآن، مما يفرض على شعوبنا تساوقاً ضرورياً يبين "الوطني" المعادي للإمبريالية، و"الاجتماعي" الذي يبني حركة الشعوب بتعبئة صحيحة حول مصالحها بآليات الديمقراطية الحديثة التي لا تشوهها إلا طبيعة الاستغلال من قبل الطبقات التابعة، ومن هنا مضى التحليل وتطوير النقاش، حول آليات "مقرطة" مجتمعاتنا العربية والأفريقية، ودراسة التجارب التي تمت في أنحاء القارة بل وقدمت نماذج طيبة قادتها الحركات الشعبية لبعض الوقت حتى تعرضت للصعوبات الخارجية كثيراً، كما قدمت، تجارب المنطقة العربية السلبية في الجزائر أو مصر، أو بلدان المشرق، مما استدعى صيحة "جورج اسحاق" في المجتمعين قائلاً: إننا نريد التغيير وليس الإصلاح لتجارب تعرضت للفساد السياسي والاقتصادي الداخلي والخارجي على السواء. من هنا برز الوضع الداخلي في موريتانيا وتطوراته، ليطرح بحذر نصيبه في التطور المنتظر! وكان ثمة نقاش حول نقاط كثيرة وغنية في الندوة، لكن المشرقيين- حضوراً ومراقبين- توقعوا البدء بقضية الرق في موريتانيا، سواء بسبب الحملات التي سبقت الندوة في أنحاء من العالمَيْن العربي والثالث معاً، أو بسبب القرار الساخن للبرلمان الموريتاني "بتحريم الرق" مدعوماً من كل التيارات بما فيها الإسلامية، رغم استمرار تحفظ البعض على عدم كفايته. فعملية تجريم الرق تتقرر في موريتانيا منذ استقلالها وهذه ثالث مرة مثلاً، لكن مظاهره تبقى دائماً مثيرة للجدل، حتى توفر لها من ذوي أصول "عبودية" من أوصلها مؤخراً إلى الكونجرس الأميركي، وإن كانت للحق من شواغل الكثيرين من نشطاء حقوق الإنسان منذ فترة طويلة. لكن والتجربة الموريتانية أصبحت تتبلور لها شعبية بهذا الشكل ورئيس البرلمان من ذوي القربى لهذه الأصول، وقاعدته الشعبية من "الحراتين" الذين هم مثل "الملونين" في جنوب أفريقيا، أي خليط السادة والعبيد، إذن فقد وجبت العودة للمشكلة في عهد موريتانيا الجديد. وهى ظاهرة اجتماعية الآن وليست "تجارة الرقيق" التي يتحدث عنها البعض، أي أنها تضم أجيالاً باقية في بيوت "السادة الأغنياء العرب" أو شبه مندمجين حتى في بيوت الفقراء العرب. وفي الحالتين يصعب- في رأي البعض- تحريرهما، في الأوضاع القائمة بشكل حقيقي؛ فلا السادة العرب المحافظون على النمط العشائري والقبلي، والرأسمالي التجاري، والثقافة التقليدية جداً، بقادرين على ترك عبيدهم الموروثين، ولا فقراء هذه المجتمعات لديهم فرص عمل يسعى إليها الرقيق منفصلين، ومن ثم تجمد "الظواهر" في المجتمعات ملتحفة بتراث ديني واجتماعي يدين "تحريم ما أحل الله".. أو اكتفاء بآيات "العتق" في القرآن، من هنا عبر بعض نواب البرلمان عن ارتياحهم لموافقة الإسلاميين، بل وحماس بعضهم لأول مرة بعد معارضتهم سابقاً لتحريم الرق الذي أحله الإسلام مكررين حجة العتق. أما الذين يتحدثون عن عدم كفاية القانون، فإنهم يقدرون الجانب الاقتصادي والاجتماعي الواجب "توفيره قبل إعلان مجرد "التجريم". ويتساءل هؤلاء: هل سيلقى بهؤلاء "المحررين" في شوارع العاطلين؟ أم توفر لهم الأرض والعمل ليكتمل تحررهم؟ وهل الإطار الثقافي المحافظ القائم كفيل باستيعابهم اجتماعياً؟ وهل سيسمح لهم بامتلاك الأرض التي كانت تحرم عليهم في الوضع القديم؟