خصصت مجلة "جابان بلاس" الشهرية التي تعنى بشؤون المجتمع الياباني وثقافته ودور اليابان في المجتمعات الآسيوية أحد أعدادها الأخيرة للحديث عن المنتج الياباني وتاريخ تطوره منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، وصولاً إلى تأكيد حقيقة لا جدال فيها هي أن هذا المنتج صار اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن على اجتياحه للأسواق العالمية يحتل موقعاً رائداً في خيارات المستهلك أينما وجد، إن لم يكن هو خياره الأول، وذلك بفضل جودته ومتانته وما استثمر فيه من إبداعات وتقنيات وأبحاث. دخلت البضائع اليابانية منطقة الخليج للمرة الأولى في أواخر خمسينات القرن الماضي، يوم كان المنتج الأوروبي والأميركي من السلع الاستهلاكية الحديثة هو المهيمن على الأسواق، وكانت النظرة السائدة لدى جمهور المستهلكين وقتذاك أنه لا خير في سلعة من تلك السلع لجهة الجودة والمتانة إن لم تكن واردة من الغرب المتقدم. والذين عاشوا تلك الحقبة لا بد أنهم يتذكرون كيف أن المستهلك كان يهجر المنتج الياباني المعروض من بطاريات ومصابيح ومراوح وأجهزة تسجيل وراديو وتلفزيون لصالح مثيله المصنوع في الغرب بدعوى أن الأولى مقلدة، وبالتالي لا بد أن تكون أقل جودة وأقصر عمراً. وهكذا كان السؤال الأول للمستهلك العازم على شراء جهاز راديو أو تلفزيون مثلاً هو عن ماركة "فيليبس" الهولندية أو ماركة "جروندج" الألمانية أو ماركة "باي" الإنجليزية، وليس عن "توشيبا" أو "سوني" أو "ناشيونال". ويصدق القول نفسه وللأسباب ذاتها على سلع أقل تعقيداً مثل البطاريات التي كان المستهلك لا يرضى بالمصنوع منها في اليابان من نوع "إفريدي" أو ما اصطلح على تسميته شعبياً ببطاريات "القطة"، كبديل لبطاريات "بريك" الألمانية، ومكائن الخياطة التي لم تستطع اليابانية منها- التي تحمل ماركة "مرديكا"- اقتحام السوق إلا بشق الأنفس بسبب تفضيل المستهلك لماركة "سنجر" الإنجليزية. أما المركبات اليابانية، فلم تكن قد وصلت بعد إلى أسواق الخليج -بل لم تكن اليابان في حينه تصنع سوى سيارة شعبية صغيرة تحت اسم "سوبارو 360" من إنتاج شركة "فوجي" للصناعات الثقيلة التي كانت قد بدأت أبحاثها في عام 1955 وطرحت أولى سياراتها في عام 1957- وإلا كان حظها مشابهاً في ظل هيمنة المركبات الأميركية والألمانية والإنجليزية على الأسواق المحلية. وقتها كانت السلع اليابانية مقلِّدة بالفعل، وكان أصحابها لا يجدون حرجاً وهم في بداية مشوار استعادة قوتهم الصناعية والتكنولوجية بعد حرب مدمرة، في الاعتراف بذلك، خاصة أن عملية التقليد والمحاكاة ظلت على الدوام جزءاً من منظومة القيم الثقافية اليابانية ووسيلة لتعويد النشء على التأمل ومعرفة كنه الأشياء غير الدارجة، وصولاً إلى خلق ما هو أروع وأتقن. غير أن هذا لم يستمر طويلاً. فمن جهة كثفت المصانع اليابانية جهودها وأبحاثها لوضع بصماتها وتقنياتها الخاصة على ما تنتجه كي تبدو متميزة وأكثر إغراء عند المستهلك، مع إنفاق جزء معتبر من أرباحها المتأتية من حقبة الازدهار الاقتصادي في الستينات على البحوث الميدانية في أقطار شرق آسيا لاستطلاع آراء جمهور المستهلكين في المنتج الياباني وملاحظاتهم حوله، كي يصار إلى تقديم هذا المنتج بطريقة تلبي رغباتهم و تتوافق مع ظروفهم واستخداماتهم بصورة أفضل. ولعل أفضل مثال يمكن إيراده في هذا السياق ما قامت به شركة "توشيبا" التي ابتكرت قدوراً أوتوماتيكية لطهي الأرز -الوجبة الرئيسية للسواد الأعظم من الآسيويين- في عام 1955، ثم راحت تعدل فيها وفقاً لنتائج أبحاثها الميدانية في هونج كونج وتايوان ودول جنوب شرق آسيا حتى غدت سلعة فائقة الإتقان والسرعة ومتعددة الاستعمالات ولا غنى عنها عند ربات البيوت الآسيويات وغيرهن. ومن جهة أخرى، راحت الشركات اليابانية المصنعة تستثمر عقول ومواهب أبنائها في اكتشاف الجديد وإنتاجه ومن ثَمَّ التفرد بطرحه في الأسواق. حدث ذلك مثلاً حينما طرحت اليابان ابتداء من عام 1958 من خلال شركة "سوني" الرائدة أجهزة الراديو الترانزستور الصغيرة حجماً والخفيفة وزناً، فأحدثت في حينها ثورة شبيهة بثورة المعلوماتية والاتصالات التي نعيشها اليوم، ويسرت للملايين من البشر عبر القارات الاستمتاع ببرامج الإذاعة في أي وقت ومكان، مخلصة إياهم إلى الأبد من متاعب أجهزة المذياع الضخمة وأسلاكها وهوائياتها بدليل بيع أكثر من نصف مليون جهاز خلال الأشهر الأولى من الإنتاج. وحدث ذلك أيضاً بعد نحو عام حينما بدأت شركة "نيكون" اليابانية في إنتاج وتسويق آلات التصوير الأوتوماتيكية ذات العدسات المتنوعة فائقة الدقة، فكانت تلك نقطة البداية لثورات ستتوالى في عالم التصوير الفوتوغرافي، وكل ثورة عليها بصمة يابانية متميزة تنم عن مقدرة فذة على الإبداع والابتكار والإضافة. وقتها لم تجد صحيفة أميركية مرموقة كـ"النيويورك تايمز" إلا أن تقر بفضل اليابانيين وأسبقيتهم في مجال صناعة الكاميرات وتطويرها. في هذه الأثناء، وطبقاً لما ذكره رجل الصناعة الياباني البارز وأحد أقطاب شركة "سوني" للالكترونيات "أكيو موريتا" في الكتاب الذي يحكي فيه قصة هذه الشركة العملاقة، كانت الأخيرة تنفق الملايين على الأبحاث والتجارب وتواصل الليل بالنهار من أجل إنتاج سلعة بدت في حينها صعبة المنال، لكنها اليوم منتشرة وتباع بأبخس الأثمان دون أن يسأل مستهلكها عن العذابات والاحباطات التي واجهها صُنَّاعها الأوائل حتى غدت حقيقة، ونعني بهذه السلعة أشرطة الكاسيت التي تفتخر اليابان بأنها أول من صنعتها وطرحتها في الأسواق مع أجهزتها ابتداء من منتصف الستينات كبديل للمسجلات الكهربائية الضخمة وبكراتها الكبيرة. غير أن "سوني" لم تكتف بتلك المعجزة، فواصلت جهودها وابتكاراتها في عقد السبعينات، إلى أن أضافت منجزاً آخر إلى إنجازاتها في حدود عام 1981، وذلك حينما طرحت في الأسواق أجهزة التسجيل والاستيريو النقالة الخفيفة المسماة "ووك مان". وتحت عنوان "صنع في اليابان" يمكن للمرء سرد قائمة طويلة من الإنجازات التي تحكي تاريخ مسيرة طويلة تحول خلالها هذا البلد العظيم من مقلِّد إلى مكتشف ومصنع متميز يتسابق المستهلكون في أرجاء العالم إلى اقتناء منتجاته وتفضيلها على غيرها، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى أن اليابان لئن كانت لا تزال تنتج وتصدر ما بدأته في الخمسينات والستينات، فإنها تقتفي أيضاً سياسة بديلة قوامها ترك أمر إنتاج تلك السلع الاستهلاكية للأقطار الآسيوية الصاعدة بترخيص منها وباستخدام ما تتمتع به تلك الأقطار من مزايا نسبية لجهة الموارد الأولية والعمالة الرخيصة، فيما هي تستثمر ما تراكم لديها من خبرات وتجارب وعقول في إنتاج السلع الأكثر دقة من تلك التي ينتظر لها أن تغير وجه الكون والبشرية في العقود القادمة. ولسنا في حاجة إلى القول: إن ما مرت به اليابان في البدايات مرت به كوريا الجنوبية في الثمانينات والتسعينات وتجاوزته بنجاح، وتمر به اليوم أقطار مثل الصين وماليزيا وتايلاند، التي حتماً ستعبر جسر إنتاج السلع المقلدة الرخيصة إلى مرحلة إنتاج سلع تحمل بصماتها الخاصة في وقت قريب.