اللاجئون العراقيون... حذار من الأخطر
من النتائج الكارثية للحرب الأميركية على العراق، ثم الحرب الداخلية على أرضه، تهجير الملايين من العراقيين في الداخل وإلى الخارج؛ في الداخل حصلت عمليات تهجير جماعية على أساس فرز طائفي ومذهبي وعرقي غيّر معالم البلد وأفرز بدوره مشاكل سكنية وإنسانية واجتماعية واقتصادية ومالية وتنظيمية (على مستوى الأملاك ونقلها وإعادة تخطيط وبناء مناطق وتأمين البنى التحتية الضرورية) وصحية، وتربوية... وفي الخارج ثمة ملايين من اللاجئين انتقلوا إلى الدول المجاورة في سوريا ولبنان والأردن ومصر، والى الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، وهم بحاجة الى إغاثة ودعم. لقد كنا أمام مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في العالم، وخصوصاً في بعض الدول العربية، وهي مشكلة تفرعت منها مشاكل كثيرة، ونحن اليوم أمام مشكلة اللاجئين العراقيين.
و"اليونسيف" منظمة الأمم المتحدة للطفولة، والمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة أيضاً، قدمتا خطة لدعم الدول المضيفة للاجئين لمساعدة 155 ألف طالب، إذ إن الدول المضيفة لا تملك الإمكانيات الكافية لرعاية اللاجئين وتأمين المدارس. حتى إن الخطة التي قدمت لا تشمل جميع الأطفال، لكنها تهدف الى مساعدة أكبر عدد منهم وتركز على بناء المدارس. لكن هذا الأمر سيستغرق أشهراً عدة، مما يعني أن بعض الطلاب لن يتمكنوا من تحصيل علمهم في العام الدراسي المقبل. نعم ثمة جيل عراقي كامل قد يحرم من التعليم في الأردن وسوريا ومصر ولبنان. جيل من بلد تمكن من محو الأمية، وفيه نسبة عالية من الأطباء المميزين والعلماء البارعين والمبدعين والمنتجين، بات بلداً فيه جيل بكامله مهدد لعدم تمكنه من التحصيل العلمي، بعد أن قتل عدد كبير من العلماء وهاجر عدد كبير جداً من الأطباء والخبراء الذين يعملون في مؤسسات أجنبية، وبات البلد مهدداً بإفراغه من الطاقات والنخب الكبيرة التي إذا ما بقي منها رموز فهم مهددون في الداخل بأساليب ووسائل مختلفة.
وفي ظل الازدياد المستمر لتهجير العراقيين الى الخارج، تظهر انعكاسات هذه الكارثة على الأوضاع داخل الدول المضيفة من جهة، وفي سياق حساباتها وعلى علاقات هذه الدول مع العراق من جهة ثانية وامتداداً مع العراقيين، وعلى صورة العراقيين ومستقبلهم من جهة ثالثة. ومما لا شك فيه أن وجود مئات الآلاف بل الملايين بين سوريا والأردن من المهجرين قد خلق مشكلة سكن للمواطنين أبناء الدول المضيفة كما للعراقيين. فقد ارتفعت أسعار العقارات، وازداد عدد السيارات، مما صعّب حركة انتقال المواطنين إلى أعمالهم وزاد كلفة الأعباء عليهم، وأثر على الوضع البيئي والتلوث بشكل سلبي بطبيعة الحال، وعلى فرص العمل غير المتوفرة أصلاً لنسبة معينة من أبناء الدول المضيفة، مع الإشارة الى ظهور نوع من العصبية إن صح التعبير لدى هؤلاء في مواجهة ما فرضه عليهم التهجير. كذلك فإن الحديث عن تفشي الدعارة في أوساط المهجرين أساء أولاً الى صورة هؤلاء، وأعطى صورة عن الفقر والحاجة عندهم في الوقت ذاته وعدم وجود حلول مما يدفع بعض النسوة إلى سلوك هذا الدرب، وهذا بحد ذاته إهانة لشعب معروف بكرمه وعزة نفسه واكتفائه. ويرافق هذه الأزمة آفات أخرى مثل الجريمة حيث سجلت حوادث محدودة حتى الآن، وآفات المخدرات والمتاجرة بها واللجوء إليها، وقد سجلت حالات كثيرة في هذا الإطار...
لقد عقد في عمّان مؤخراً مؤتمر اللاجئين العراقيين، لكنه للأسف أبرز الانقسامات وتضارب المصالح. كل دولة تريد الحصول على أعلى نسبة من المساعدات. والمساعدات غير متوفرة حتى الآن. وتريد حماية نفسها وأمنها واستقرارها ومصالحها ولو اقتضى الأمر تشدداً استثنائياً على مستوى القيود الأمنية، وقد سبب ذلك مشاكل لمهجرين بقوا عالقين على الحدود ومنعوا من الدخول إلى هذه الدولة أوتلك، وهذا أثار حفيظة مفوضية اللاجئين التابعة للأممم المتحدة، ومشاكل للمهجرين الذين دخلوا الى هذه الدولة أوتلك باستثناء لبنان الغارق في مشاكله حيث لا قيود حتى الآن، ولا مشاكل خارج إطار الوضع الاجتماعي والإنساني، ولا أقلل من أهمية هذا العنصر لكنه ليس بقرار من الدولة اللبنانية كما هي الحال في الدول الأخرى، حيث لا بد من تأشيرة، ولا يحق لهم نفس الحماية ولا الامتيازات التي يتمتع بها اللاجئون، فضلاً عن العوامل السابقة الذكر.
التحرك الدولي حتى الآن لم يبلغ حدود توفير المساعدات المالية المطلوبة على الأقل، والأميركيون المسؤولون بفعل حربهم عن هذه الكارثة يحاولون درس القضية عن طريق خفض العنف في العراق، لكن العنف يزداد، وهم يغرقون أكثر فأكثر والعراقيون يهجرون أكثر. وثمة في أميركا من طرح فكرة استيعاب أعداد من العراقيين اللاجئين في الولايات المتحدة، على الأقل اختيار عائلات وأصدقاء الذين يعملون داخل المؤسسات الأميركية ومع القوات الأميركية في العراق، أوالذين يتعاملون معها... وإلى أن يبت بهذا الأمر ستكون المشكلة قد تفاقمت أكثر، ولا ندري ماذا سيجري في الأشهر المقبلة، وماذا ستكون نتيجة بقاء الأميركيين أوانسحابهم من العراق على هذا الصعيد، لكن كل المؤشرات تدل على استمرار التدهور والتفكك والعنف والإرهاب والقتل الجماعي وعدم الاستقرار، وبالتالي استمرار التهجير وتفاقم مشاكله، وهذا يستوجب عملاً على خطين: الخط الأول معالجة جدية للوضع في الداخل تنطلق من إعادة نظر أميركية واقعية في الواقع القائم وطريقة التعاطي معه بشكل مخالف لكل السياسات السابقة، وبالتنسيق مع دول الجوار القلقة والفاعلة والقادرة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
والخط الثاني يتمثل في رسم خطة متكاملة على المستوى الدولي لمعالجة مشكلة اللاجئين تنطلق أيضاً من الأخذ بعين الاعتبار تجربة التعاطي الفاشل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتستفيد من دروس وعبر نتائجها الخطيرة، إلا إذا كان ما يجري هو في سياق مشروع مدروس ويتم تنفيذه عن سابق تصور وتصميم ولا يخدم إلا إسرائيل والجماعات الداعمة لها في الإدارة الأميركية، لكن ذلك لا ينمّ إلا عن حقد وحقد فقط، وانعكاساته سوف تستهدف الجميع، وهؤلاء قبل غيرهم تماماً كما يجري في فلسطين!