من "هانفورد" إلى "يونغبيون": عالم بلا تهديد نووي!
من "هانفورد" إلى "يونغبيون": عالم بلا تهديد نووي!
-------
لم يتوقف شبح الحرب النووية عن التمثل كهاجس يقض مضاجع البشرية منذ أربعينيات القرن الماضي، بما شكلّه من ترويع لسكان الأرض قاطبة خلال سني الحرب الباردة بين العملاقين الأميركي والسوفييتي. لكن تقنيات الطاقة النووية بدأت بعد ذلك في الوصول خلسة إلى أيدي دول نامية، فصار منع الانتشار النووي والعمل على إبقاء الطاقة النووية في إطار "النادي النووي"، قضية استراتيجية تشغل بال الدولة الأعظم في العالم، أي الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي... ومن ثم كان الصراع على امتلاك الطاقة النووية محور سياسات وأحداث وتقلبات كثيرة عصفت بالساحة الدولية خلال العشرية الأخيرة.
وفي الأيام الأربعة الماضية، سجلت الأخبار والتقارير الإعلامية أربعة أحداث ذات صلة مباشرة بموضوع الطاقة النووية. فقد دخل ذلك الموضوع ساحة سجال المرشحين للرئاسة الأميركية، إذ أعلنت المرشحة "الديمقراطية" هيلاري كلينتون، يوم الجمعة، أنه لا يمكن استبعاد اللجوء إلى الخيار النووي في الحرب على الإرهاب. وفي إطار تفاعلات "الصفقة المفترضة" بين طرابلس وباريس لإقامة مفاعل نووي في ليبيا، كُشِف النقاب يوم الخميس عن بيع "أسلحة وتكنولوجيا نووية" فرنسية إلى ليبيا. وفي يوم الجمعة وُقِّعَ اتفاق بين الهند والولايات المتحدة، يقضي بمنح نيودلهي حق تخزين وإعادة استخدام المواد النووية لأغراض سلمية. وفي اليوم نفسه أيضاً تم اختيار اللبناني معين حمزة، رئيساً للدورة الـ51 لمؤتمر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي تعقده منتصف الشهر المقبل في مقرها بفيينا... فهل أصبح العالم على بوابة مفاعل نووي؟ وماذا تغير في طرق وأساليب التعاطي السياسي مع موضوع الطاقة النووية؟
الطاقة الذرية أو الطاقة النووية، هي الطاقة التي تتولد عن انشطار أو اندماج أنواء ذرات عنصر كيماوي مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم، وهي تمثل حالياً نحو 20% من الطاقة المولدة في العالم، ومن ثم ينظر إليها العلماء كمصدر حقيقي لا ينضب للطاقة، خاصة لأغراض الإنارة والتسخين وتشغيل المصانع وتسيير السفن... وغير ذلك من الاستخدامات السلمية التي لا حصر لها. لكن ما يثير الشكوك حول مستقبل الطاقة الذرية هو تكاليفها الباهظة نسبياً، إضافة إلى المخاوف القوية من تأثيراتها على السلامة العامة. فالمخلفات النووية تعد مواد سامة، ولا يوجد نظام آمن للتخلص منها، حيث يتسبب إشعاعها العالي في قتل الكائنات الحية وفي إحداث تشوهات وإعاقات تصعب معالجتها. وقد أصبحت المفاعلات النووية سيئة الصيت، لاسيما بعد حادثة التسرب الإشعاعي في محطة "تشيرنوبل" بأوكرانيا عام 1986.
إلا أن الاستخدام العسكري للطاقة النووية كان الدافع الأول لتوليدها واستعمالها في صناعة أكثر القنابل والأسلحة فظاعة وتدميراً في تاريخ العالم، وقد أقيم أول مفاعل نووي عام 1944 في "هانفورد" بأميركا لإنتاج الأسلحة النووية، ثم أجري أول اختبار نووي في صحراء مكسيكو سيتي عام 1945، وبعده بشهرين أمر الرئيس هاري ترومان بإلقاء قنبلة "الفتى الصغير" على مدينة هيروشيما اليابانية، ليصبح سباق التسلح النووي محور الصراع على النفوذ والهيمنة والتفوق. فقد تمكن الاتحاد السوفييتي من تفجير قنبلته النووية الأولى عام 1949، وفجرت بريطانيا أول قنبلة نووية لها عام 1952، ثم لحقت بها فرنسا عام 1960. ولم يأت عام 1970 حتى دخلت ساحة السباق النووي دول نامية كالصين والهند، ثم لحقت بهما إسرائيل وباكستان، كما ظهرت مشاريع نووية متفاوتة التطور والأحجام لدى كل من كوريا الشمالية والعراق وإيران، أي الدول الثلاث التي أطلق عليها الرئيس الأميركي جورج بوش في عام 2002 مصطلحه الشهير "محور الشر".
وبينما شنت الولايات المتحدة حرباً على العراق لإزالة "خطره النووي"، من دون أن تجد هناك في النهاية أثراً لذلك "الخطر"، فقد تميز تعاملها مع ملفي إيران وكوريا الشمالية، بتعرجات شملت مراحل صمت وتصعيد متعاقبة. ورغم تصلب موقفي طهران وبيونج يانج، فثمة مؤشرات على تساوق جزئي مع الاتجاه العالمي العام نحو تقليص الاعتماد على الطاقة النووية، والوعي بتراجع أهميتها العسكرية. ففي الشهر الماضي قبلت إيران، والتي طالما تجاهلت مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بدخول المفتشين الدوليين إلى منشأة "نانتز" لتخصيب اليورانيوم، والتي يعتقد أنها أكبر موقع نووي إيراني. وهي تقع في وسط البلاد، ويعمل بها نحو 5000 جهاز طرد مركزي، وتضم 20 مبنى بينها قاعدتان تحت الأرض بُنيتا بجدران يبلغ سمكها متران. وقد سبق لطهران أيضاً أن وافقت في مارس الماضي على تركيب كاميرات مراقبة في المنشأة، مما يسمح للوكالة أن تراقبها على نحو أفضل.
أما الخطوة الأكثر حسماً، فتلك التي قامت بها كوريا الشمالية الشهر الماضي، حين فككت مجمع "يونجبيون" النووي، وهو يمثل العمود الفقري للترسانة الذرية التي يمتلكها نظام بيونج يانج، إذ يضم غالبية منشآته النووية، وضمنها مفاعل بحث بقدرة 5 ميغاواط، ومفاعل آخر كان قيد الإنشاء بقوة 50 ميغاواط، ومركز لمعالجة البلوتونيوم، ومركزاً آخر لمعالجة قضبان الوقود النووي. ويعتقد أن المجمع الذي يقع على بعد 100 كم إلى الشمال من العاصمة بيونج يانج، قد أنتج منذ تم وضعه في الخدمة عام 1987، ما يكفي من البلوتونيوم لصنع ثماني قنابل نووية.
وفي كل الأحوال فإن الطاقة النووية أخذت منذ سنوات عديدة تفقد كثيراً من أهميتها، لاسيما أن طابعها الردعي لم يحلْ من دون اندلاع ثلاث حروب بين الهند وباكستان منذ عام 1960، كما أن نصيب الاستخدامات العسكرية من الطاقة النووية يبدو في تناقص متزايد، إذ لا يتعدى في الوقت الحالي نسبة 37% من إجمالي الطاقة النووية المولدة على مستوى العالم. بل إن دولاً عدة أوقفت توليد الطاقة النووية لأغراض سلمية وأغلقت محطاتها، كما هو الشأن بالنسبة للنمسا (1978)، والسويد (1980)، وإيطاليا (1987)، وبلجيكا (1999)، وألمانيا (2000). وقد أصدرت النمسا وإسبانيا قوانين تمنع بناء منشآت نووية جديدة على أراضيهما.
أليست تلك اشراقات أمل على الطريق نحو عالم خال من التهديد النووي ومخاطره الماحقة؟!
محمد ولد المنى