أتت الزيارة المهمة لوزيريْ الخارجية والدفاع الأميركيين إلى المنطقة لتشكل منعطفاً مهماً باتجاه محاصرة واستنزاف ما يسمى "محور التشدد"، وخاصة إيران، عبر خلق توازن قِوى إقليمي ولو عبر الدفع بسباق تسلح كبير في المنطقة خلال السنوات العشر القادمة. وربما كان الهدف الأهم للزيارة هو طمأنة وتسليح حلفاء واشنطن في المنطقة، وليُّ ذراع إيران ورفع سقف الرهان أمامها لإجبارها على التعاون، بجعل التكلفة عالية أمامها إذا ما أصرت على المناورة والتمنُّع في ملفها النووي، وفي العراق أيضاً. وكذلك لحرق أوراق القوة الاستراتيجية الأخرى من يدها عبر تفعيل عملية السلام، وانخراط أميركا في نشاط جدي لحلحلة أقدم وأعْقد صراع في العالم وهو الصراع العربي- الإسرائيلي، مما يحرم إيران وعموم القوى التي تصفها أميركا بالمتشددة، كـ"القاعدة" و"حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، من الوقود الذي توظفه ويكسبها معركة العقول والقلوب، ويُحرج، في المقابل، حلفاء واشنطن في "محور الاعتدال". فأميركا، على ما يبدو، قررت الآن تغيير المعادلة فيما تبقى من إدارة الرئيس بوش. ولكن، هل ستنجح في ذلك؟ كان ملفتاً إعلان الإدارة الأميركية عشية الزيارة عن صفقات أسلحة لدول المنطقة تصل قيمتها خلال -السنوات العشر القادمة- إلى 63 مليار دولار. نصفها لإسرائيل عن طريق المعونات المباشرة التي سترتفع بنسبة 25% لتبقي إسرائيل بذلك متفوقة استراتيجياً وتقنياً على الدول العربية مجتمعة. ولمصر بما يصل إلى 13 مليار دولار للسنوات العشر القادمة كذلك. بينما ستحصل دول مجلس التعاون الخليجي على ثلث حجم تلك الصفقات، أي ما قيمته 20 مليار دولار، ولكنها طبعاً لن تكون مساعدات ومعونات يسددها دافعو الضرائب الأميركيون، كما هو الحال مع إسرائيل ومصر، بل سيتم تسديدها من ميزانيات الدفاع لدول مجلس التعاون الخليجي، حيث تنفق دول المجلس، ما يصل إلى أكثر من نصف الإنفاق العربي على التسلح، الذي يتجاوز في مجمله الثلاثين ملياراً سنوياً. ثلاثة أسباب أساسية تبرر الزيارة: الأول هو طمأنة حلفاء واشنطن في المنطقة، أي دول ما بات يعرف بـ"محور الاعتدال"، وخاصة في دول مجلس التعاون الست، حيث نشعر بالقلق المبرر من تصاعد الحديث عن الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، وانعكاسات قرار كهذا على أمن واستقرار المنطقة، مما دفع وزير الدفاع الأميركي غيتس إلى التأكيد بأن الزيارة "هي للتطمين وللتطلع إلى فرص تعاون مشتركة"، وبأن واشنطن ملتزمة بضمان أمن المنطقة. وفي السياق نفسه أكد مسؤول أميركي أنه مضى على أميركا في المنطقة ستون عاماً، وستبقى فيها لمدة أطول. كما أن واشنطن تأمل أن تلعب الدول العربية السُّنية دوراً فاعلاً في حث العرب السُّنة في العراق على الانخراط في المصالحة. ولا يبدو أن الحظ حالف واشنطن في ذلك، فعقب الزيارة مباشرة أعلن أكبر فصيل سُني عراقي هو "جبهة التوافق" انسحاب وزرائه من حكومة المالكي، مما سيعقِّد الوضع السياسي والأمني أكثر، ويؤكد أن حكومة المالكي التي تدعمها إدارة الرئيس بوش غير قادرة على تحقيق ما هو مطلوب منها، كما أنها لم تحصل على تأييد وثقة دول المنطقة. السبب الثاني هو إيران، الحاضر- الغائب. حيث اعتبرت رايس أن "إيران تشكل أكبر تهديد للولايات المتحدة، وللشرق الأوسط". ولهذا السبب تسعى واشنطن لاحتواء إيران واستنزافها عبر إيجاد توازن قسري بينها وبين الطرف العربي. السبب الثالث للزيارة هو الترويج للاجتماع الذي أعلن عنه الرئيس بوش في الخريف القادم لتفعيل عملية السلام، وإن كانت الإدارة الأميركية ما زالت ترفض توصيفه باسم "مؤتمر"، على أمل حلحلة أعْقد ملف، وأقدم صراع، تجاهلته إدارة بوش طوال السنوات الست الماضية. زيارة المسؤولين الأميركيين للمنطقة إذن لها دلالتها وتؤشر إلى الإخفاق والقلق اللذين باتا يعكسان التخبط الأميركي، حيث تتقاطع الملفات الثلاثة الأكثر تأثيراً على أمن واستقرار المنطقة من الصراع العربي- الإسرائيلي، إلى تفجر الأوضاع في العراق، وصولاً إلى حافة مواجهة خطيرة بتداعيات كارثية مع إيران، ليرتسم بكل ذلك مشهد مُعقد ومتشابك ينبئ بالقادم من تطورات وأحداث. وكل ذلك بسبب أخطاء وتقلبات الاستراتيجية الأميركية التي نبقى نحن، في المنطقة، نسدد أثمانها بما هو أكثر بكثير من مجرد صفقات الأسلحة وسباق التسلح ونذر حرب باردة جديدة.