بيع النفس البشرية
على وزن "بيع نفس بشرية" الرواية الشهيرة عن استغلال الخادمات، يحدث أيضاً "بيع نفس" في جريمة حقن الممرضات البلغاريات، حوالى خمسمائة طفل ليبي، بمرض "الإيدز".
ليس هذا تحليلاً لأحكام القضاء الذي يبدو أنه قام بدوره، ولا تدخلاً في شؤون الدول وسياساتها، فذاك ما يخص شعوبها ومثقفيها الوطنيين ومفكريها الأحرار. بل الأمر يتعلق بما كثر الحديث عنه منذ أكثر من عشر سنوات باسم "حوار الحضارات" أو حوار الثقافات، أو حوار "الشمال والجنوب" أو "أوروبا والإسلام". وهو أيضاً دفاع عن الثقافة العربية واحترام الحياة فيها من أجل تغيير الصورة النمطية في الغرب عن العرب، أنهم أجساد بلا أرواح، أبدان بلا عقول، قبائل وطوائف بلا إنسان. قد يهزم العرب عسكرياً. وقد يعجزون سياسياً، ولكنهم يظلون حاملين لثقافة أثرت في ثقافات العالم، ومازالت موضع عزة وافتخار.
وإن من مظاهر الأزمة العربية الراهنة اختلاط كل شيء بكل شيء، النصر والهزيمة، المقاومة والإرهاب، الواقعية والاستسلام، الشرعية والصورية، الحق والباطل، الاستقلال والتبعية، الاستقرار والطوارئ، الأمن والشرطة، القيمة والتجارة، المبدأ والسياسة. وكان أحد مقومات النهضة توضيح هذا الخلط، والكشف عما يدور في الواقع من تداخل واختلاط الحابل بالنابل، حتى لم يعد يعرف العربي مَن الصديق ومَن العدو، أين المنفعة وأين الضرر؟
إن ما حدث من حقن أطفال بمرض "الإيدز" من ممرضات بلغاريات ليس فقط جريمة في حق الأطفال أو في حق البشرية، بل هي جريمة ثقافية في رؤية الأوروبيين في شمال البحر الأبيض المتوسط لغيرهم خاصة العرب والمسلمين في جنوبه، استمراراً لرؤيتهم للأتراك في العصر العثماني، القسوة والتعصب والقهر. ومازالت الرؤية مستمرة حتى الآن في الإرهاب والعنف والتخلف والتسلط وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والمُسن والأقليات. وطالما استمرت العنصرية العرقية والمركزية الثقافية داءً دفيناً في الوعي الغربي، سيظل مستعمراً غيره، كارهاً ثقافته، نافياً وجوده الجسدي والحضاري. لذلك يناصب الغرب الإسلام العداء في أوروبا الشرقية. أوروبا مسلمة! ويعارض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بذرائع واهية اقتصادية وسياسية، والحقيقة برفض حضاري لثقافة مغايرة، وقد كانت يوماً تسيطر على أوروبا الشرقية على مدى خمسة قرون. وهو موقف عام يظهر في نتوءات فاقعة بين الحين والآخر خاصة في اليمين الأوروبي، برلسكوني وفالاتشي في إيطاليا، برنارد لويس في إنجلترا وأميركا، "لوبن" في فرنسا، بوش و"المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة. لا فرق في ذلك بين ممرض وطبيب، بين ثقافة العامة وثقافة الخاصة اللتين تجمعهما الثقافة الإعلامية الحديثة والإرث التاريخي الطويل. وقد يجمع البلغاري والفلسطيني هم الرزق، ولقمة العيش، وجمع المال، والعمل في بلاد غنية. وقد تعوَّد الفلسطيني المهاجر على ذلك، بعد أن هجر وطنه، وأخذ جنسية بديلة تحميه من غائلة العرب وهوس الحاضر وذاكرة التاريخ.
الآخر شيء للبيع والشراء كما بيع الرقيق الأفريقي في أسواق الولايات المتحدة. منذ خمسة قرون ومازال مستمراً حتى الآن. استضعاف طفل من ثقافة تفخر بأنها هي التي صاغت "الإعلان العالمي لحقوق الطفل". تهبه الموت كما وهبته قوى الاستعمار لشعوب بأكملها استئصالاً في أميركا وأستراليا، واستعباداً لكل الشعوب التاريخية القديمة في كل أرجاء أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والوسيلة الحقن بفيروس "الإيدز" الذي لا علاج له حتى يصبح الموت قدَراً محققا لخمسمائة طفل، جيل بأكمله يورث من بقي منهم على قيد الحياة المرض لجيل لاحق. وينتشر المرض بوسائل أخرى من الأوروبيين الشاذين جنسياً، وإغراء الفقراء بالمال والحلوى أو بالمبيدات المسرطنة وهو ما تفعله إسرائيل في الزراعة المصرية.
أحسَن القضاةُ صنعاً بإصدار حكم الإعدام على الممرضات البلغاريات والطبيبين البلغاري والفلسطيني بدرجتيه، الأولى والثانية، العادي والاستئناف، تطبيقاً للقصاص. فمن قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً في كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. ولا سلطة أعلى من سلطة القضاء. إلا أن جهة أخرى موجهة سياسياً تعمل الإرادة السياسية من ورائها، والقضاء مجرد غطاء شرعي، خففت الحكم إلى السجن المؤبد، خمسة وعشرين عاماً. ولو أن ذلك قد تم في بلد لا يسن بها قانون القصاص مثل بعض البلاد الأوروبية التي تعتبر "الإعدام" ليس حلاً، ولا يحيي الموتى، وخرقاً لحقوق الإنسان، فالحياة حق طبيعي، ولا يمكن تصحيح خطأ وهو القتل بخطأ آخر وهو الإعدام، فمجموع الخطأين لا يكوِّن صواباً، لكان الأمر مفهوماً، ولكن إلغاء عقوبة الإعدام تم في ثقافة بها القصاص (ولكم في القصاص حياة). وقد توفي ما يقرب من خمسين طفلاً. واكتمل المشهد بدخول أهالي الأطفال الشهداء على الخطأ، وقيامهم بمظاهرات تطالب بالقصاص. وعبروا عن فرحتهم بإعدام القتلة. وهم أنفسهم الذين عبروا عن الفرحة بقبول التعويض وإنهاء الموضوع سلمياً بعد تدخل مؤسسة خيرية على الخط. تقوم بدور الوسيط بين الضحية والجلاد.
كانت قيمة صفقة "بيع النفس" مليون دولار لكل طفل ومجموعها أربعمائة وخمسون مليوناً، وهو أقل من ضخة نفط في يوم واحد. ونجح النظام السياسي في فك الحصار عنه، وشطبه من قائمة الإرهاب، وزيادة التبادل التجاري بينه وبين الاتحاد الأوروبي، وتسهيلات تأشيرات الدخول لكل من الطرفين لدى الطرف الآخر، وزيادة البعثات الطلابية للدراسة في الغرب، وعودة العلاقات مع الغرب إلى مستواها الطبيعي، بدلاً من تكرار غزوها في 1986 من القوات الأميركية... وكلها في النهاية وعود قد لا تتحقق.
وكسبت فرنسا، ورئيسها الجديد في حاجة إلى دور يلعبه في الحوار الوطني بين الفرقاء في الوطن داخل لبنان، وفي الإفراج عن الممرضات البلغاريات ورفيقهن، وفرنسا هي التي صاغت "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن" أثناء الثورة الفرنسية. والسيدة حرمه تقوم بدور السيدة الأولى في رعاية الشؤون الاجتماعية والخدمات الإنسانية والمشروعات الثقافية. وفرنسا هي التي رفضت حتى الآن الاعتذار للجزائر عن جرائم الحقبة الاستعمارية الفرنسية والمليون شهيد. وهي التي تسعى إلى إقامة محكمة دولية لقتلة رفيق الحريري وتترك عشرات الآلاف من السجناء الفلسطينيين في سجون إسرائيل.
ووصل الجناة الأبطال إلى صوفيا واستقبلوا بالورود والرياحين والدموع الإنسانية تنهمر من عيون القادمين والمستقبلين، وكأنهم أبطال عادوا منتصرين في الحرب ضد العرب. وفي نفس اللحظة وبدلاً من أن يقضوا الحكم المؤبد بسجون وطن الشهداء وهو لا تنقصه السجون ولا المسجونون ولا السجانون، وبدلاً من أن يقضوا المدة في أوطانهم وقد عرفت يوماً بأنها أيضاً تغص بالمسجونين السياسيين واحتراماً لأحكام القضاء، فإن الرئيس البلغاري أصدر حكماً بالعفو عن القتلة، فيضيع دم الأطفال هباء. وتنتهي التمثيلية، التي دامت تسع سنوات. فالغرب هو الغرب، والشرق هو الشرق. أوروبا هي أوروبا، والعرب هم العرب، تأكيداً على الصور النمطية التي تراكمت عبر التاريخ ومازالت مستمرة في الحاضر والمستقبل.
ويظهر المعيار المزدوج الشهير في سلوك الغرب. يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل الممرضات البلغاريات والطبيب البلغاري وآلاف المعتقلين السياسيين في سجون إسرائيل، ومئات الشهداء من القصف الإسرائيلي، وملايين الأطفال العراقيين استشهدوا من جراء الحصار والقصف الأميركي دون أن يحرك الغرب ساكناً، لا رئيس الجمهورية الفرنسية ولا أحد من المؤسسات الخيرية العربية أو الغربية. ولو قامت ممرضات وأطباء عرب بنفس الجريمة التي قامت بها الممرضات البلغاريات في حق أطفال غربيين أو إسرائيليين انتقاماً من حقبة استعمارية مازالت مستمرة، لقامت الدنيا ولم تقعد ضد المجرمين العرب وثقافتهم اللاإنسانية. وقد غزت إسرائيل دولة بأكملها، لبنان، لتحرير ستة من أسرى الحرب الإسرائيليين ولديها عشرة آلاف من السجناء الفلسطينيين.
بيع نفس عربية بالعشرات أقل بكثير من بيوع نفس عربية أو إسلامية بالآلاف في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان وتشاد ومالي أو في باكستان.