أي سلام تريد أميركا؟
ما الذي يدعو الرئيس بوش إلى إعلان مبادرة للسلام الآن؟ أهو اقتناع مفاجئ بأن السلام هو الحل الوحيد الذي ينهي الصراع العربي- الإسرائيلي؟ لا أظن ذلك، فالرئيس بوش لم يكن يحتاج إلى أن يقف داعماً لسلسلة الاعتداءات الإسرائيلية التي يمكن وصفها بأنها حروب راح ضحاياها الألوف من الشعب الفلسطيني منذ أن تسلم موقع القيادة للدولة الراعية للسلام، منذ عهد أبيه الذي أطلق دعوة شهيرة لـ"مؤتمر مدريد" وقد استجاب لدعوته العرب متفائلين ولكنهم خرجوا منه يائسين. وكان ما دعاهم إلى الاستجابة آنذاك وضوح رؤية راعي السلام، فقد كان هناك مبدأ للمؤتمر الدولي، هو "الأرض مقابل السلام"، ومرجعية هي الشرعية الدولية ممثلة بقرارات مجلس الأمن التي أصبحت شهيرة يحفظها العالم كله، فضلاً عن التوجه المُعلن إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وإلى الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة وفق القرار الدولي 194. و كان هناك الراعي الروسي الذي تعهَّد مع الولايات المتحدة بالوصول إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة ودائمة. وقد حضرت مؤتمر مدريد دول عظمى فضلاً عن مساهمة الأمم المتحدة، وقد دفعت سوريا للمشاركة في المؤتمر جملة رسائل تطمينات ووعود بدت جادة عبر سلسلة زيارات ومباحثات قام بها وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر إلى دمشق، والتفاصيل ما تزال في ذاكرة المجتمع الدولي كله. ولقد كانت سوريا صادقة في التوجه إلى ما سمته الخيار الاستراتيجي، وكانت العلاقات السورية- الأميركية على مستوى القمة شديدة الوضوح، حتى إن صلة إنسانية محترمة وشفافة نمت بين الرئيس الأسد الراحل وبين الرئيس كلينتون الذي بذل جهداً كبيراً لإنهاء عهده الرئاسي بتسوية تحقق له نصراً تاريخياً. لكن كلينتون كما أحسب لم يكن صاحب القرار الحاسم، فقد كان يحاول لكنه يدرك أن إسرائيل ليست جادة، وأنها تريد الاستفادة من الوقت كما صرح شامير، وكان إقدام الإرهاب الإسرائيلي على قتل رابين قتلاً لمسيرة السلام، وإعلاناً بأن إسرائيل تريد استسلاماً من العرب مقابل أن تضمن لهم أمنهم. ولتأكيد هذا الهدف قام بيريز بمذبحة قانا، ليعلن براءته من درب رابين ويضمن الأمان لنفسه. وحين جاء باراك متفائلاً بأن يذعن العرب للوقائع الجديدة، حاول أن ينكر وديعة رابين، وأن يجبر ياسر عرفات على تنازلات كبرى فيما يتعلق بالوضع النهائي، وكان الرئيس الأسد قد قدم أمثولة التمسك بمبادئ مدريد وعدم التنازل عن أي حق، ولاسيما مع وجود اعتراف دولي به، ولم يكن الرئيس الأسد الراحل يقبل أن يأخذ حقاً منقوصاً تنتقص معه السيادة الوطنية ولا أن يدير ظهره للقضية الفلسطينية. وهكذا لم تنجح محاولة باراك مع الرئيس الأسد وقد حملها كلينتون، كما لم تنجح محاولته في كامب ديفيد الثانية مع عرفات، وجاءت المفاجأة المذهلة لباراك في النصر الكبير الذي حققته المقاومة اللبنانية و"حزب الله" بخاصة عام 2000، مما دفع شارون أن يقتحم المسجد الأقصى، ليمتحن قوة وحضور الإسلام في العالم الإسلامي كله. وكانت نتائج الامتحان مدهشة له ولحلفائه، فكان لابد من استهداف الإسلام بوصفه حاضناً رئيساً لفكر وثقافة المقاومة، وكان النموذج الطالباني معداً ببراعة لتقديم صوة قاتمة، كما كانت "القاعدة" التي رعاها الأميركان فزَّاعة جاهزة، وتم إحراق واشنطن هذه المرة بجريمة سبتمبر، وابتلع العرب الطُّعم، حيث لم يكن ممكناً أمام الهياج الأميركي الجامح أن يطالب العرب بأدلة قاطعة على مسؤولية الإسلام والعرب عن الجريمة، واستغل الإسرائيليون بنجاح باهر ما حدث ليقنعوا العالم بأن المقاومة إرهاب، وأن "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد" وسواهم من حركات المقاومة هم نسخة عن "القاعدة". وطبَّل الإعلام الصهيوني لغسل أدمغة عالمية غير معنية بالبحث والتدقيق مضت في الركب الصهيوني وصار عدوها الجديد هو المقاومة. وقد حاولت إسرائيل في العام الماضي أن تقضي على المقاومة في لبنان، مثلما كانت تحاول منذ ستين عاماً أن تقضي على المقاومة في فلسطين، لكنها وجدت أن المقاومة أقوى من أن تُباد، وكان طبيعياً أن تسعى إسرائيل وحلفاؤها إلى تفتيت الجسد العربي الذي ينتج المقاومة في لبنان وفلسطين، على غرار ما تفعل أميركا في العراق.
والآن ما الجديد الذي ستقدمه الولايات المتحدة لدفع عملية السلام؟ وما المرجعية التي يريدها الرئيس بوش في دعوته إلى مؤتمر للسلام؟ أعتقد أن مفتاح الحل أمام المؤتمر المنشود هو أن يعلن الرئيس بوش أن أساس المؤتمر المقترح هو المبادرة العربية للسلام، وهي مبادرة واضحة الطريق والمعالم والأسس والمرجعيات، والأوْلى أن تقوم الأمم المتحدة برعاية مؤتمر للسلام، وأن تشارك دول كبرى فيه، لأن السلام بات ضرورة دولية ذات أولوية لإطفاء الحرائق في الشرق العربي والإسلامي. ولو أن ذلك حدث لوجدت الولايات المتحدة أن كل العرب معتدلون، ولسقط هذا التقسيم العدواني، لأن كل العرب موافقون على المبادرة، وهم جميعاً أكدوا رفضهم لأي تعديل فيها، فإذن ليس هناك معتدل ومتشدد، وليس هناك متنازل عن الحق، إلا إذا طلع علينا لا سمح الله من يريد النزول تحت سقف المبادرة. وإذا كان المقصود بفريق غير المعتدلين (سوريا) فإنها لم تخرج عن السرب العربي في اعتماد المبادرة العربية، وهي تدعو باستمرار إلى مؤتمر مثل "مؤتمر مدريد" واضح الأسس والمرجعية والأهداف، وقد أعلن الرئيس الأسد في خطاب القسَم ما تطلبه سوريا بوضوح كي تعود إلى طاولة المفاوضات عبر آليات قدم ملامحها في خطابه، وقال إن المطلوب "أولاً هو إعلان رسمي من إسرائيل واضح غير ملتبس حول رغبتها بالسلام، والأمر الثاني تقديم ضمانات حول عودة الأرض كاملة، لأن كلمة سلام مرتبطة لدينا بكلمة أرض"، وإلا فما الداعي لتضييع المزيد من الوقت؟ والتجارب الماضية لا تطمئن، وقد أشار الرئيس الأسد إلى ضرورة وجود وديعة تشبه وديعة رابين، ولم تعلن سوريا رفضاً لدعوة السلام في أي يوم، ولكن سوريا تريد أن ترى وضوحاً وجدية، وهي تريد أن تكون دعوة الرئيس بوش جادة، ولن تتأكد جديتها أمام مواطنينا العرب إلا إذا أعلن الرئيس الأميركي أسسها ومرجعياتها وضماناتها ومصداقيتها عبر حضور دولي وأممي ضامن.
إن الخطر الذي يشعر به مواطنونا العرب اليوم هو أن يكون الرئيس بوش يبحث عن ذريعة جديدة لعدوان جديد على المنطقة، مبرره أنه سعى إلى السلام، لكن العرب رفضوه، ودعاة المقاومة أجهضوا مشروع السلام الأميركي، وبالطبع لن يشرح الإعلام الصهيوني المروج طبيعة السلام المعروض من أميركا، فقد يكون الهدف مجرد حملة علاقات عامة تتيح لإسرائيل اصطفافاً جديداً من بعض العرب الذين تسميهم معتدلين ضد من تسميهم متشددين وإرهابيين أو رعاة إرهاب، والمواطنون العرب المرتابون يدفعهم إلى الريبة دعم أميركا العسكري لإسرائيل في مرحلة إعلان سلام!! وسعيها إلى شق الصف العربي واستفادتها من الخلل الحاصل في المجتمع الفلسطيني واللبناني. إن كثيراً من المحللين العرب يخشون أن يكون هدف المسعى الأميركي إحداث شرخ جديد وكبير في الوطن العربي عبر تباين محتمل في المواقف العربية من عرض السلام الغائم لتكون النتيجة مزيداً من التفتت فوق ما تعانيه الأمة من اضطراب في العراق ولبنان وفلسطين، لذلك لابد للأمة من التمسك بثوابتها، والمطالبة الجادة باعتبار المبادرة العربية منطلقاً للسلام، وبإعلان واضح لمبدأ مدريد "الأرض مقابل السلام". فأي تسرع في القبول أو في الاصطفاف والتطبيع مع إسرائيل وبدء مسلسل المصافحات والتقاط الصور التذكارية قد يقود الأمة إلى تفكك لا يريده أي عربي يحرص على الحق العربي، وسيكون مؤلماً أن يقع العرب في ذات الفخ مرات عديدة، مع أمنيتي بأن تكون دعوة بوش مراجعة حقيقية للسياسة الأميركية ينهي بها عهده بطلب الغفران بعد طوفان الدماء التي سيسأله الله والتاريخ عنها، وهي ما تزال تهرق في العراق كل يوم وتهدد بها منطقتنا كلها ظلماً وعدواناً.