كثير من نكات العراقيين موضوعها الأكراد، وبعضها مصدره الأكراد أنفسهم، وهذا سبب كافٍ لإعفاء المثقفين الأكراد من الإجابة عن سؤال "كيف خدعت لندن وواشنطن مثقفين عراقيين آمنوا بأن الاحتلال سيحقق الديمقراطية والازدهار في بلدهم؟". فالضحك على الذات أول دلائل الحكمة، وهذه ليست نكتة كردية عن الأكراد. لكنْ إذا أردنا أمثلة عن ضحك المثقفين الأكراد على أنفسهم، أعني أمثلة عن حكمتهم فهناك نكاتهم عن ورطتهم في العمل مع الأحزاب الطائفية، وفيما يلي واحدة منها: زار كرديٌ شقيقه، فوجد على جدران منزله صور زعماء طائفيين. سأله: من هؤلاء؟ أجاب: هذه صور أهل البيت. تساءل الشقيق باستغراب: "ليش أنت مستأجر غرفة عندهم؟!". يُعفى أيضاً من الإجابة عن السؤال "مثقفون" يعتقدون أنهم هم الذين خدعوا الغزاة المحتلين لتحرير العراق من الحكم الدكتاتوري، ويخدعونهم اليوم ليحرروا العراق من الحكم الطائفي. ما شاء الله! يبدو أن لندن وواشنطن تديران جمعية خيرية للرفق بالعراقيين! وكما يقول الشاعر الألماني "فيلهلم غوته" فإنه "ليس هناك أقبح من رؤية الجهل يعمل". وما أقبح من جهل "المثقفين" بأن الطائفية أثمن سلاح بيد الغزاة الذين يستخدمونه بدهاء أكبر مما يستخدمه زعماء الطائفية أنفسهم، وبأن البلد محتل من قبل قوة غاشمة خارجة على القوانين الدولية والإنسانية والسماوية، وبأن الاحتلال خراب وفساد ونهب وعنف وذبح وتشريد للملايين، وبأن التعاون مع الغزاة المحتلين ليس مجرد تواطؤ بل جنون؟ وأي جنون أكثر بؤساً من انغماس "مثقفين" في تصميم علم "متحضر"، ودساتير وقوانين "متحضرة" بانتظار أن تسلمهم واشنطن العراق الديمقراطي، المتحرر، المُعفى من الديون، كعقود مقاولات "المفتاح باليد"! واليوم يترنحون، كما في النكتة المعروفة عن سكارى يطرقون في آخر الليل باب أحدهم، وعندما تسأل امرأة من داخل البيت عن الطارق يقولون لها: "تعالي شوفي رجاءً، منو منّا زوجك؟". وهل يعرف أهله من لا يندب الخسارة في أرواح الناس وممتلكات البلد؟ هل يعرف بيته من لا يبكي سوى خسارته الشخصية في حصص وأسهم مشروع الاحتلال الملوثة بدم مليون عراقي؟ أغرب ما في المثقفين الذين عملوا للاحتلال هو افتقارهم إلى الوعي بالذات، والذي يعتبره الفيلسوف الفرنسي "ألبير كامو" بمثابة "الصفة الأساسية التي تميز المثقف". يلومون كل شيء وكل شخص على كارثة الاحتلال، بما في ذلك الاحتلال نفسه، وزعيمهم المفضل سابقاً أحمد الجلبي. "أكبر خطأ للاحتلال كان هو الاحتلال نفسه". يصرح بذلك لمراسل صحيفة "واشنطن بوست" عادل عبد المهدي نائب رئيس الوزراء وأبرز زعماء "مجلس الحكم الانتقالي" الذي أسسه بول بريمر. ويشارك في اتهام الاحتلال جميع المثقفين الذين حملتهم طائرات الاحتلال ودباباته إلى قصر الحكم في المنطقة الخضراء. وكان بين أول من انتقد الاحتلال علناً "رندة فرانكي الرحيّم" التي يسود الغموض تعيينها وتسريحها من منصبها كأول سفيرة لبغداد المحتلة في واشنطن. لم ينصب اعتراض السيدة الرحيّم الذي أعلنته في محاضرة في معهد "أميركان إنتربرايس" في واشنطن، على الاحتلال، بل على الاعتراف الرسمي للبيت الأبيض بالاحتلال. هذا النوع من الهذر يقول عنه الكاتب الأميركي الساخر مارك توين: "الحقيقة أغلى شيء عندنا، دعنا نقتصد فيها"! ويشارك في الهجوم ضد الاحتلال كنعان مكية الذي دخل التاريخ بإعلانه أن أصوات الصواريخ وهي تدك بغداد كانت أعذب موسيقى سمعها في حياته. قال ذلك خلال لقائه عشية الغزو بالرئيس الأميركي جورج بوش في البيت الأبيض، وهو يعلن الآن أن "الخطأ الأميركي الأول والأكبر كان المضي في الاحتلال". ويذكر مكية في حديث مع صحيفة "إنترناشينال هيرالد تريبيون" أنه أوشك على ذرف الدموع يوم إعدام صدام حسين، واعتبر ذلك "كارثة لا مثيل لها" تخالف كل شيء كان يعمل له ويتمناه. وقال إنه يريد النظر الآن داخل نفسه، والتبحر عميقاً في الافتراضات التي قادته إلى الحرب. لقد أقعدته الصدمة عن الكتابة، وفقد الأمل في بناء عراق جديد. ذكر ذلك مصطفى الكاظمي، مدير "مؤسسة الذاكرة العراقية" التي أنشأها مكية بمعونة من وزارة الخارجية الأميركية بلغت خمسة ملايين دولار. وكالآخرين، يلقي مكية بالمسؤولية على غيره. فالجناة الرئيسيون في تقديره هم العراقيون، الذين عيّنهم الأميركيون في "مجلس الحكم الانتقالي". ويتحفظ مكية على ذكر الأسماء، لكنه يذكر أنهم "مغتربون حاولوا أن ينشئوا لأنفسهم قواعد شعبية عن طريق التأكيد على الاختلافات الطائفية والإثنية". ويعرف كل متابع للشأن العراقي من هم الأشخاص الذين يعنيهم مكية بالقول إن "الطائفية بدأت هناك"؟ فجميع الموقعين على ما يُسمى "البيان الشيعي" الذي صدر عشية الاحتلال، مغتربون ومعظمهم يحملون جنسيات أميركية أو بريطانية، وفي مقدمتهم موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي، وعلي علاّوي، الذي عيّنه حاكم الاحتلال بول بريمر في منصب أول وزير للدفاع. يطالب علاّوي الآن بمغادرة "المحتلين للعراق... وبأسرع وقت". أعلن ذلك في محاضرة ألقاها أخيراً في البرلمان البريطاني حول "العلاقات السنية الشيعية وآثارها الواسعة على المنطقة". وقال في جواب عن سؤال أحد الحاضرين، إنه عاد إلى العراق بعد غياب نحو نصف قرن، وهو يعتقد بأن 70% من المشاكل سببها العراقيون، وترك العراق في العام الماضي، وهو يعتقد العكس. ولا يتوقع علاّوي أن تؤدي مغادرة قوات الاحتلال إلى مذابح بين السُنة والشيعة، فالضرر قد وقع فعلاً، حسب تقديره، والوضع الحالي في طريق مغلق، والشيعة يواجهون خيارات مصيرية. وحذر علاّوي الذي شغل منصب وزير المالية في حكومة إبراهيم الجعفري من أن التزام الحكم الحالي بالطائفية سيضع العراق في حالة حصار، وتمتد آثاره عبر المنطقة كلها. واعتبر من شبه المستحيل أن توافق دول المنطقة على تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات منفصلة، ولن يؤدي ذلك، حسب اعتقاده، إلاّ لقيام أقاليم ضعيفة. لماذا ركز علاّوي إذن في "البيان الشيعي" على "مظلومية الشيعة" وتجاهل "مظلومية كل العراقيين"؟ وجهت السؤال طالبة دكتوراه من أسرة نجفية عريقة، وأنكر علاّوي ذلك مشيراً إلى أن "البيان الشيعي" تحدث عن اضطهاد الشيعة، لكنه طالب بإزالة الاضطهاد في العراق بجميع أشكاله. ولا أملك تعليقاً على موضوع يتعفف عن الحديث فيه المثقفون الوطنيون الذين يلثمون مواطئ أقدام كل من يقع ضحية المذابح الطائفية، سواء في النجف وكربلاء، أو بغداد وسامراء، أو الموصل والبصرة. ولعل أفضل نصيحة هنا قول الفيلسوف الفرنسي فولتير: "طالما يعتقد الناس بالتُرّهات فلّن ينفكوا عن ارتكاب الفظاعات". لقد قرأتُ "البيان الشيعي"، وحزنتُ إذ وجدت بين الموقعين عليه أكاديميين أكنّ لهم الود، وأعتقدُ أحياناً أن خدم الأضرحة المقدسة يفهمون بالسياسة أكثر منهم. بعض هؤلاء الأكاديميين يُدّرس في جامعات غربية راقية، لكنهم يفهمون العراق "قدر ما تفهم النملة بموسيقى بتهوفن"، حسب الأديب الراحل نجيب المانع.