هل يعرف رئيس السلطة الفلسطينية شيئاً لا نعرفه نحن؟ فعلى مدى الخمسة أيام الماضية تعرضت قوات الأمن الرئاسي في غزة إلى هجمات منظمة قام بها مسلحو حركة "حماس"، بالإضافة إلى محاصرة المقر الرئاسي في مدينة غزة. لكن كل ما قام به إزاء هذه التحديات الخطيرة لسلطته هو إبداء ملاحظاته عن حالة الجنون التي سادت غزة، رافضاً إلقاء اللوم على أحد، أو تحميل المسؤولية لطرف بعينه. وربما كان البعض يتوقع أن يندد هذا القائد المنتخب ديمقراطياً بانقلاب "حماس" والدعوة إلى التدخل الدولي لاستعادة السيطرة على القطاع، لكنه ظل جالساً في مقره برام الله يصدر التصريحات الغامضة، بينما الجزء الوحيد المحرر من الدولة الفلسطينية المفترضة وقع في أيدي خصومه الفلسطينيين. وأخيراً أعلن أمس إقالته للحكومة التي تقودها "حماس"، لكن بعد سيطرتها التامة على قطاع غزة. وسيقول المراقبون إن ذلك ليس غريباً على محمود عباس القائد الذي يفضل أسلوب التهدئة مع العناصر التي تحدته بدلاً من مواجهتها. بيد أن محمود عباس، ربما يفهم الوقائع المستجدة أكثر مما نفعل نحن. فعلى مدار السنة الماضية عندما كانت "حماس" تشن هجماتها داخل غزة، كانت قوات "فتح" ترد في الضفة الغربية، حيث يمتلكون قوة أكبر. لكن عندما اندلع القتال هذه المرة، لم تقم "فتح" بالكثير للرد على "حماس" في الضفة الغربية، هذا التصرف السلبي الصادر عن محمود عباس تجاه الصراع وعدم تدخل قواته، يؤكد بأن الحل ربما قد استقر في ذهنه. والواقع أن عباس و"فتح" قررا تسليم غزة لحركة "حماس"، وفي الوقت نفسه التمسك بالضفة الغربية لينتهي الأمر بظهور "حماسستان" و"فتحستان" كجزء من "حل الدولتين"، لكن ليس قطعاً بالطريقة التي كان يتمنى الرئيس جورج بوش. وعلى رغم أن جميع القادة الفلسطينيين سيستمرون في إعلان وحدة الأراضي الفلسطينية واستحالة تقسيمها، لكن في الخفاء سيجد قادة "فتح" وعباس عزاءهم في المعضلة التي سيكون على "حماس" مواجهتها الآن في غزة. فالدولة الفاشلة في غزة التي تسيطر عليها "حماس" محشورة بين مصر وإسرائيل، وهي تعتمد في تأمين احتياجاتها من الماء والكهرباء والسلع الأساسية على الدولة اليهودية، التي يعتبر تدميرها أحد أهم الأهداف المعلنة لـ"حماس". وما على "حماس" سوى إطلاق صاروخ آخر من صواريخ "القسام" على إسرائيل، حتى تُقدم هذه الأخيرة على التهديد بإغلاق الحدود إذا لم توقف "حماس" إطلاق صواريخها. وفي تلك الحالة سيكون على "حماس" إما التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، أو البحث عن المساعدة المصرية لتلبية الاحتياجات الأساسية لمليون ونصف المليون من سكان غزة. وإذا كانت مصر قد غضت الطرف عن دخول الأسلحة والأموال إلى غزة التي ساهمت في إحكام "حماس" لسيطرتها على القطاع، فهل ستسمح هذه المرة بقيام دولة إرهابية فاشلة على حدودها يقودها أحد فروع "الإخوان المسلمين"، وترتبط بعلاقات مع إيران و"حزب الله"؟ أم أن القاهرة ستصر على تحقيق معايير محددة من النظام مقابل تعاونها؟ ومهما يكن عليه الحال، فقد أصبحت غزة مسؤولية "حماس" ومشكلتها الخاصة. وبالطبع ستؤدي هذه التطورات إلى تحرير انتباه محمود عباس للتركيز على الضفة الغربية الأكثر قابلية للحكم والإدارة، حيث يمكنه الاعتماد على إسرائيل للقضاء على خصومه في "حماس"، كما يمكنه اللجوء إلى الأردن والولايات المتحدة لمساعدته على بناء قوات الأمن التابعة له. وباعتباره رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيساً للسلطة الفلسطينية، يملك محمود عباس الصلاحيات كافة للتفاوض مع إسرائيل حول الموقف من الضفة الغربية. وما أن يبسط سلطته على الضفة الغربية حتى يمكنه التوقيع على اتفاق سلام مع إسرائيل يتم بموجبه قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة في الضفة الغربية والأحياء العربية في القدس الشرقية. وفي الوقت نفسه يمكن للفلسطينيين في غزة أن يقارنوا وضعهم تحت حكم "حماس" بوضع أشقائهم في الضفة الغربية بقيادة محمود عباس، وهو ما قد يدفع "حماس" إلى التصالح مع إسرائيل والدفع في النهاية باتجاه توحيد غزة والضفة الغربية في إطار كيان سياسي واحد يعيش في سلام إلى جانب الدولة اليهودية. وعلى رغم صعوبة التسليم بهذه النهاية في ظل الحرب الأهلية الفلسطينية المستعرة بين الطرفين، فإنه على ضوء التطورات الحالية قد يتحول هذا المسار إلى أفضل الخيارات بالنسبة لمحمود عباس. ولعله أيضاً الخيار الأفضل لرئيس الحكومة الإسرائيلية "إيهود أولمرت"، فبعد أن تم انتخابه على برنامج يقوم على الانسحاب من الضفة الغربية عانى "أولمرت" من ضعف شديد إثر الحرب في لبنان خلال الصيف الماضي. ويبقى أمله الوحيد لإنقاذ نفسه سياسياً والخروج من أزماته الداخلية هو تحريك عملية السلام. ومع انتخاب "إيهود باراك" كزعيم لحزب "العمل" حصل "أولمرت" على شريك ذي خلفية أمنية يمكن الاعتماد عليه لتجنب سقوط الضفة الغربية في نفس مصير قطاع غزة. لكن بالنسبة لإدارة الرئيس بوش تعتبر النهاية التي آلت إليها غزة أمراً محرجاً للغاية، لاسيما في ظل الجهود التي بذلتها وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" طيلة 18 شهراً الماضية لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وبالطبع يشكل تحول غزة إلى دولة فاشلة آخر ما كانت تود أن تختم به مسيرتها. وسيجادل البعض بأنه حان الوقت للحديث إلى "حماس"، لكن سلوكها غير الدستوري في غزة والتزامها بتدمير إسرائيل يجعل منها شريكا مستبعداً، على الأقل حتى يرغمها حكم غزة على تغيير موقفها والتصرف بمسؤولية أكبر، وهو ما يجعل من سياسة "الضفة الغربية أولا" أفضل خيارات "رايس" أيضاً. ـــــــــــــــــــ السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"