الإسلام والغرب: بين الأمن والإيمان
ليس غريباً أن تهتم بريطانيا بالإسلام والمسلمين. فالمؤتمر الذي نظّمته جامعة كامبردج في الأسبوع الماضي بالتعاون مع وزارة الخارجية البريطانية، يعكس هذا الاهتمام، وهو اهتمام طبيعي نظراً لوجود حوالى مليوني مسلم بريطاني. إضافة إلى حوالى مليون آخر من غير المواطنين. وقد ازدادت الحاجة إلى هذا الاهتمام بعد أحداث مدينة "برادفورد" في غرب بريطانيا، التي تميزت بكثير من الاضطرابات العنيفة.. وكذلك بعد سلسلة أحداث خطيرة أخرى ولو أقل عنفاً، وقعت في برمنغهام وفي سواها من المدن البريطانية الكبرى. ولعل آخر أخطر هذه الأعمال الإرهابية كانت لندن مسرحاً لها حيث استهدف قطار الأنفاق بأعمال تفجيرية ذهب ضحيتها عدد من البريطانيين والأجانب. عندما زار بيروت رئيس أساقفة كانتربري السابق جورج كاري، نظمت دار الفتوى في بيروت ندوة له كان موضوعها العلاقات الإسلامية- المسيحية. يومها قال رئيس الأساقفة إن البريطانيين لا يعرفون المسلمين إلا بصفتهم مواطنين في الإمبراطورية البريطانية السابقة. وأنهم ينتمون إلى شعوب ودول خضعت لهذه الإمبراطورية. أما اليوم فإن المسلمين يعيشون جنباً إلى جنب مع البريطانيين في معظم المدن البريطانية. إنهم معاً في العمل وفي المدارس والجامعات والأسواق والأندية الرياضية.. ولذلك قال كاري جئت إلى لبنان لأتعرّف مباشرة وعن كثب على واقع العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، لعلي أستخلص منه ما يفيد تجربتنا الجديدة. يومها ذكرتُ في الندوة التي شاركت فيها مع رئيس الأساقفة الحقبة التاريخية الرافضة للإسلام في بريطانيا والمتخوّفة منه. وأشرت إلى واقعة تاريخية جرت في عام 1637 عندما طلب سلفه رئيس أساقفة كانتربري في ذلك العام وكان يدعى "لوند" من مجلس العموم البريطاني تحريم شرب القهوة باعتبارها مؤامرة على المسيحية.. وقال في مذكرته التي رفعها إلى المجلس "إن من يتناول القهوة يصاب بالهلوسة التي تؤدي به إلى اعتناق الإسلام". وقد استجاب مجلس العموم في ذلك الوقت لطلب رئيس الأساقفة فحرّم القهوة وحرّم التحوّل من المسيحية إلى الإسلام. حتى أن حبات البُن كان يطلق عليها اسم "حبة محمد"!!. غير أن بريطانيا اليوم هي غيرها في ذلك الزمن الغابر. فالبريطانيون يُقبلون اليوم على الإسلام (أو كانوا يقبلون عليه)، إلا أن الجرائم الإرهابية التي توالت في أوروبا وفي العالم، بما في ذلك في بريطانيا نفسها، والتي ارتكبها إرهابيون باسم الإسلام، قلبت الوضع رأساً على عقب. فالتسامح الكبير التي تمتع به المسلمون قبل وقوع تلك الجرائم، تحوّل إلى تحفظ بل وحتى إلى حذر من المسلمين. والمساجد الكثيرة التي كانت تستقطب اهتمام الرأي العام، أصبحت تستقطب اهتمام الأمن العام!!. لاشك في أن هناك حالياً مشكلة تتعلق بالنظرات المتبادلة بين الإسلام والعالم.. وليس بين الإسلام والغرب وحده. أو بين الإسلام وأوروبا، أو بين الإسلام وبريطانيا، وتتعامل الدول المختلفة مع هذه المشكلة بصيغ مختلفة أيضاً. ففي فرنسا مثلاً تجري عملية الفرز على قاعدة دينية (قضية الحجاب مثلاً) وهي قضية غير مطروحة في بريطانيا، حيث يجري التعامل مع المشكلة على قاعدة عنصرية (الملونون الباكستانيون والأفارقة). أما في ألمانيا فالقاعدة المعتمدة كما يبدو هي الجمع بين الديني والعنصري (المسلمون الأتراك تحديداً). غير أن أوروبا بدأت تتوحد أمنياً وسياسياً (ومعلوماتياً) لمواجهة خطر الإرهاب الذي تمارسه جماعات التطرف الإسلامي، وبدأت تتوحد كذلك في توصيفها لهذه المشكلة وبالتالي في كيفية التعامل معها (مؤتمر وزراء الداخلية الأوروبيين). ومن هنا أهمية المؤتمر الذي نظمته جامعة كامبردج، والذي عقد في القصر التاريخي "لانكستر" في قلب العاصمة لندن. وللدلالة على الاهتمام البريطاني الرسمي -وليس الأكاديمي فقط بهذا المؤتمر، فقد افتتحه أمير ويلز تشارلز ورئيس الحكومة توني بلير، واختتمه زعيم المعارضة ديفيد كاميرون، وألقى كل منهم خطاباً مطولاً. كما ألقى رئيس الحكومة البريطانية المنتظر جوردن براون كلمة حول هذا الموضوع في حفل تكريمي أقامه لوفود المؤتمر الخمسين تقريباً. وترأست إحدى جلسات العمل وزيرة الشؤون البلدية وهي من الوزراء المقربين من الرئيس توني بلير. وشارك في الكلمات الرئيسة أيضاً رئيس حكومة باكستان شوكت عزيز. وتعتبر هذه المشاركة الباكستانية في حد ذاتها مؤشراً له دلالته الخاصة، ذلك أن حوالى 80 في المئة من مسلمي بريطانيا يتحدرون من أصول باكستانية -هندية - بنغلادشية، ومنهم أعضاء في مجلس اللوردات وفي مجلس العموم. يطرح عنوان المؤتمر "الإسلام والمسلمون في العالم"، ثلاث إشكاليات مهمة. الإشكالية الأولى هي: هل إن فهم الإسلام على حقيقته يؤدي إلى فهم المسلمين؟ وبالتالي هل إن المشكلة مع المسلمين مشكلة دينية أم سياسية؟ وهل هناك مسافة بين الإسلام كدين سماحة وسلام وانفتاح واعتراف بالآخر المختلف وواقع المسلمين؟ وكيف يمكن معالجة المشكلة بوجهيها: سوء تفسير بعض المسلمين للإسلام، وسوء فهم بعض غير المسلمين للإسلام؟ ومن هنا جاء الشطر الأول من العنوان "الإسلام والمسلمون" وكأن العنوان ربط الإسلام كدين بسلوك بعض المسلمين الذين يسيئون في سلوكهم العنفي للإسلام نفسه. الإشكالية الثانية هي في وضع إطار للمشكلة يشمل العالم كله. فالمشكلة ليست بين الإسلام والغرب، إنها بين الإسلام والعالم. وبالتالي فإن مؤتمر لندن ليس معنياً بدراسة مظاهر المشكلة وتصورات حلّها في الإطار الإسلامي- البريطاني المحلي، ولا حتى في الإطار الأوروبي- الغربي الإسلامي، ولكن في الإطار العالمي. ذلك أن المشكلة أصبحت في عالميتها، تحتاج إلى حل يخدم الأمن والاستقرار والسلام في العالم كله. أما الإشكالية الثالثة فهي أن الإسلام نفسه لم يعد محصوراً في الدول الإسلامية. وأن خُمس المسلمين اليوم يعيشون في دول غير إسلامية، وهم منتشرون في شتى أنحاء العالم. وبالتالي فإن الإسلام أصبح ديناً عالمياً. لذلك لا يمكن استمرار سوء الفهم، أو سوء العلاقات بين الإسلام والعالم. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على الأساليب الأمنية لمعالجة هذا الواقع السيئ. بل لابد من العمل على إقامة جسور معرفية تحقق الاحترام والقبول المتبادل. تناولت أعمال اللقاء مواضيع شائكة ومتعددة. منها الدين والدولة. ومنها الأقليات الإسلامية والمواطَنة. ومنها البعد الديني للصراع السياسي القائم حالياً. وقد تناول الرئيس توني بلير هذا الموضوع في كلمته، الأمر الذي سمح لي بأن أدخل معه في نقاش داخل المؤتمر. فقد قال رئيس الوزراء البريطاني إنه بصرف النظر عما إذا كانت القرارات التي اتخذها بالمشاركة في الحرب على العراق وأفغانستان صحيحة أم لا، فإن هذه القرارات لم تتخذ على خلفية دينية معادية للإسلام. كذلك فالقرارات التي اتخذها بالمشاركة في الحرب على صربيا لإنقاذ البوسنة من المجازر التي تعرّضت لها لم تُتخذ على خلفية محاباة المسلمين البوسنيين ضد خصومهم المسيحيين الأرثوذكس الصرب. بل إنها قرارات أملتها قناعات عامة، واعتقاد بسلامة هذه القرارات وصحتها. هنا توجهت إلى الرئيس بلير بالسؤال التالي: إن من المهم ما أشرت إليه من فك الارتباط بين الانتماء الديني وعملية اتخاذ القرار السياسي، ولكن ألا تعتقد أن من المهم أيضاً الاعتراف بالمظالم التي لحقت بالعالم الإسلامي من المغرب إلى إندونيسيا على يد دول غربية متعددة؟ ثم ألا ترى أن من شأن ذلك أن يساعد المسلمين المتنوِّرين والمعتدلين على أن يرفعوا أصواتهم أكثر في وجه قوى التطرف التي تجعل من هذه المظالم مبرراً أو غطاء لما ترتكبه من أعمال؟ تردّد الرئيس توني بلير قبل أن يجيب. وقال أكثر من مرة إنه لا يعرف كيف يجيب، وإنه يبحث عن الكلمات للإجابة على هذا السؤال. إلا أنه قال بعد تفكير وجهد: إن المظالم لم تقع على المسلمين لأنهم مسلمون. وبالتالي فإن رفع المظالم أمر تحتمه الضرورات الإنسانية. فالمظالم يجب أن ترفع عن كل الناس بصرف النظر عن أي انتماء ديني.. أي أنه يجب أن ترفع لأسباب إنسانية لا دينية. قلت: "المهم أن يُعترف بالمظالم، وأن تُرفع عن الناس، ليس فقط لقطع الطريق أمام مستغلِّيها، وإنما لإحقاق الحق ولإقامة علاقات احترام وتعاون بين الشعوب المختلفة". لم يبدِ الرئيس بلير أي انزعاج أو ضيق بالسؤال الذي لم يتوقعه، على رغم الإرباك الذي تعثر فيه على غير عادة منه. فقد صافحني بعد انتهاء كلمته مردداً كلمة واحدة: شكراً لك. فالرجل على رغم حدة ذكائه وعمق خبرته في الشؤون السياسية العامة (أكثر من عقد من الزمن رئيساً لدولة كبرى) هو إنسان ديمقراطي يقبل النقد وينفتح على الرأي الآخر. ولعل في طريقة التسلّم والتسليم التي تتم اليوم على مراحل بينه وبين الرئيس المقبل جوردن براون ما يضيف إلى المدرسة الديمقراطية البريطانية مزيداً من الاحترام الذي يحتاج المسلمون إلى التعلم منها. لقد كان المؤتمر الذي نظمته جامعة كامبردج مناسبة للكشف عن أمرين أساسيين يتعلقان بالعمل الإسلامي في بريطانيا تحديداً وفي الغرب بصورة عامة. الأمر الأول هو تعدد الجبهات والمنظمات الإسلامية. والتعدد في حد ذاته ظاهرة صحية وطبيعية. إلا أن من غير الصحي ومن غير الطبيعي هذه الاختلافات التي تؤدي إلى صراعات تذهب إلى حد تبادل التكفير. الأمر الثاني هو أن هذه الجمعيات والمنظمات تعمل بعقلية "الغيتو الإسلامي". بمعنى أنها تكاد تكون منعزلة عن المجتمع الأرحب والأوسع الذي تشكل جزءاً منه. ذلك أن كل من هو غير مسلم يوحى له بأنه غير مرغوب فيه. أو كأنه دخيل أو أنه عنصر مخابراتي يريد أن يتسلّل إلى قلب الجماعة. وفي مجتمعات ديمقراطية منفتحة كالمجتمع البريطاني مثلاً فإن هذا التقوقع على الذات يبعث على الريبة والقلق ليس فقط لأنه يأتي بعد الأحداث الإرهابية التي وقعت، ولكن لأنه فوق ذلك يتناقض مع الأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع من حيث الشفافية والانفتاح. والواقع أنه منذ جريمة 11/9/2001 في نيويورك وواشنطن، وما تلاها من أعمال مماثلة من إندونيسيا حتى مدريد في إسبانيا أصبح الاهتمام العالمي يتركز على الإسلام، ليس كدين ولا حتى كقضية ثقافية واجتماعية، ولكن كقضية أمنية. فقد أطلقت الولايات المتحدة العنان لأجهزة الأمن والمخابرات للتعامل مع الإسلام على أساس هذا التعريف الجديد له. طبعاً فشلت الولايات المتحدة في المعالجة الأمنية، وأدى فشلها إلى زيادة الأمر تعقيداً. على رغم أنها بدأت مؤخراً تعترف بالفشل، وتحاول التراجع عن الأسباب التي أدّت إلى هذا الفشل، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك، التراجع عن التوصيف الذي اعتمدته للإسلام، وتالياً عن كيفية التعامل معه. وقد جاءت مبادرة جامعة كامبردج لتتجاوز هذا التوصيف الخاطئ أساساً والمعالجة الخاطئة، لتطرح القضية ليس من جانب أمني، ولكن من جانب معرفي، وعلمي وأكاديمي. وقد أكد ولي العهد الأمير تشارلز في كلمته على البعد الروحي والحضاري للإسلام، كما أكد على الأضرار التي لحقت به كما لحقت بالمجتمعات الأخرى. وهو ما حاول أن يؤكد عليه أيضاً كل من رئيس الحكومة البريطانية توني بلير وزعيم حزب "المحافظين" المعارض دافيد كاميرون. طبعاً هناك فوارق عديدة في مقاربة كل منهما للمشكلة. وهذا أمر طبيعي، بين رئيس بدأ يجمع أوراقه لمغادرة "10 داونينغ ستريت" (مقر رئاسة الحكومة) وزعيم يتطلع بشوق للوصول إلى هذا العنوان. إلا أن الجامع المشترك بينهما هو أن كليهما لم يطلب اهتمام أجهزة المخابرات أو الشرطة للبحث عن حلول. بل تركا الأمر لمؤسسة ثقافية كبرى هي جامعة كامبردج (التي تحتفل السنة القادمة بمرور 800 سنة على إنشائها) أمر البحث عن حلول تحقق التعايش والانسجام بين المسلمين في بريطانيا.. وفي العالم.