كانت الأيام العشرة الأخيرة من شهر مايو المنصرم هي بحق أيام معركة الصحافة السودانية ضد الحكم ومن أجل الدفاع عن الحريات الصحفية التي أهدرتها سياسات النظام الحاكم. وقد وقفت الصحف التي لا تتحدث باسم الحكومة بصورة أو بأخرى وكذلك الأغلبية العظمى من العاملين في هذه المهنة، وقفوا جميعاً في خندق واحد دفاعاً عن تلك الحرية الغائبة وتضامناً مع صحيفتين يوميتين صدر قرار بإيقاف إحداهما عن الصدور لثلاثة أيام، وُمنعت الأخرى من الصدور أيضاً ليوم واحد. والأزمة التي فجرت كل هذا سببها لجوء نيابات الصحافة والأمن القومي وغيرها من أجهزة النيابة إلى ممارسة لا قانونية ومعارضة لروح الدستور ونصوصه ضد الصحف بتعطيلها بموجب المادة (130) من الإجراءات الجنائية. الخطأ الأعظم هو أن هذه المادة في ذلك القانون وضعت لحماية المجتمع من ممارسات ضارة بالصحة أو البيئة من باعة الأطعمة واللحوم والخضر، وبالتالي فلا علاقة لها بالصحف والصحفيين، ولكنها استخدمت لتضييق الخناق على مهنة الصحافة ومنعها من إبداء الرأي، وهو ما لم يكن قط في خيال المشرع الذي وضع تلك المادة. كانت الشرارة الأولى في هذه المعركة أن أحد كتاب الأعمدة اليومية المقروءة في إحدى الصحف كتب مقالاً ينتقد فيه وزير العدل ويتهمه بالكذب، لأنه قرر سحب قضية جنائية كبيرة عن ساحة المحكمة يدور الاتهام فيها حول كسب غير مشروع وغسيل أموال. رأى الكاتب أن الحجج التي ساقها الوزير في قراره ذاك ليست صادقة. وطالب الكاتب باستقالة الوزير، وكان رد الفعل هو تعطيل تلك الصحيفة لأيام ثلاثة. ولما بادرت صحيفة أخرى بالتضامن مع الصحيفة الموقوفة بإعلان كتاب الأعمدة فيها بالاحتجاب عن الكتابة احتجاجاً وتضامناً، أُوقفت هي الأخرى بقرار مماثل من النيابة، يستند على المادة ذاتها، التي أُوقفت بها الصحيفة الأولى. وهنا تنادى الصحفيون لتضامن شامل مع الصحيفتين من أشكاله التظاهر والاعتصام لبعض الوقت وتحرير مذكرات لقيادة نظام الحكم تطالب بعدم اللجوء لتلك المادة من الإجراءات الجنائية ويقولون إن الساحة الطبيعية لمعاقبة الصحف هي المحاكم المدنية ويؤكدون أن الإجراءات التي تتبعها وزارة العدل والنيابات العامة باطلة ومناقضة للدستور الذي أقره نظام الحكم الحالي بعد التوقيع على اتفاقية (نيفاشا) التي وضعت حرية التعبير في مقدمة الالتزامات التي نصت عليها. استخدام المادة (130) من قانون الإجراءات ظل هو الممارسة السائدة ضد الصحف على امتداد أكثر من ثلاثة أعوام وعانت كثير من الصحف من هذه الممارسة غير الشرعية، ولم تكف عشرات المقالات والبحوث التي نشرها عدد من كبار رجال القانون المستقلين بعدم شرعية ذلك الإجراء إلى أن كان تضامن الصحفيين الأخير في الأيام الأخيرة من مايو، والذي أدى إلى تراجع وزير العدل علانية وقوله إن استخدام تلك المادة ضد الصحف إجراء غير سليم وفي غير موضعه. وبعد هذا الاعتراف من الوزير، فإن حملة الصحف تتواصل لأنه إذا كانت تلك قناعته، فلماذا سمح للجنائيات التابعة له بمواصلة تلك الممارسات الخاطئة طيلة عهده في الوزارة وهو يقارب العامين. وتستمر الحملة على الوزير وأعوانه، وقد تنتهي باستقالته أو إقالته أو إجراء تعديل وزاري يبعده عن وزارة العدل.