كانت معركة انتخابات الرئاسة الفرنسية من أسخن المعارك الانتخابية التي شهدتها الجمهورية في تاريخها الحديث، وظلت أنظار العالم وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة مشدودة نحو فرنسا طوال الأسابيع الماضية، ذلك لأنه ورغم أن الانتخابات الفرنسية شأن فرنسي، ولكن نتيجتها ستؤثر على أوروبا والولايات المتحدة نظراً لمكانة فرنسا التاريخية والمستمرة في سياسات العالم الغربي. لم تختلف كثيراً نتيجة الانتخابات عن توقعات المراقبين وتحليلات المحللين السياسيين منذ بدء الحملة الانتخابية، فكل الدلائل كانت تشير إلى أن المرشح المحافظ الذي يكرهه كثير من الفرنسيين، نيكولا ساركوزي، سيحقق حلم حياته ويفوز برئاسة الجمهورية العتيدة، وأن المرشحة الاشتراكية دائمة الابتسام لن تحقق -على الأقل في هذه الدورة الحامية- عودة اليسار الفرنسي إلى سدة الرئاسة التي طال انتظاره لها. لكن رويال، مع ذلك، حققت في دورة إعادة الانتخابات تقدماً ملحوظاً إذ حصلت على 47% من أصوات الناخبين عند الإعادة. وهزيمة مرشحة اليسار أمام المحافظ اليميني، ليست مشكلة السيدة رويال أو بسببها، فاليسار الفرنسي "الاشتراكي" ظل يفقد مكانته -التي كانت في الماضي القريب- في ثلاث دورات انتخابية متوالية، حقق فيها الرئيس اليميني شيراك النصر لحزبه "التحالف من أجل الحركة الشعبية"، فاليسار الاشتراكي في فرنسا وكثير من بلدان أوروبا الجديدة والقديمة ظل يعاني من حالة انحسار وتشرذم طوال العقود الثلاثة الماضية. ويبدو أن ثورة التغيير والتجديد التي تفجرت في العالم وبشكل أوضح في أوروبا وبريطانيا، قد خلقت أوضاعاً جديدة، وأنتجت ناخبين جدداً يطمحون إلى تجاوز اليسار التقليدي، ولكن تأثيرهم الانتخابي سيصب دائماً في مصلحة اليمين، لأنه دائماً، بانقسام اليسار وتشرذمه وتوحد يمين الوسط، ستكون النتيجة لمصلحة الأخير، هذا تقريباً نفس السيناريو الذي جرى في كندا مؤخراً وصعد على أمواجه اليمين المحافظ إلى سدة الحكم وأبعد الحزب الليبرالي عن السلطة بعد اثني عشر عاماً حكم خلالها كندا. فرنسا بعد هذه الانتخابات ستدخل مرحلة سياسية جديدة يحملها رئيس جديد أوضح ما يميزه -وما يغيظ كثيراً من مواطنيه- وضوح رسالته الاجتماعية اليمينية التي ظل يبشر بها خلال عام كامل، التجديد الاقتصادي لمواجهة تدني الأوضاع الاقتصادية الفرنسية، وذلك يحتاج إلى سياسة حازمة سيدفع ثمنها دون شك العاملون الفرنسيون، تعديلات جذرية في قوانين الهجرة، وهي أيضاً ستصيب في نهاية المطاف، المهاجرين من أفريقيا مهما حاول الرئيس تحسين وتجميل صورتها، وقبضة شديدة على الأمن والنظام مارسها الرئيس الجديد عندما كان وزيراً للداخلية عام 2005، وهي قضية معروفة سجل فيها ساركوزي على نفسه موقفاً غير موفق عندما وصف الشباب الغاضب بأنهم "حثالة" المجتمع (وليس مصادفة أن هذه "الحثالة" كانت في أغلبيتها من المسلمين الفرنسيين من أصول شمال أفريقية)! ومع ذلك، فإن أغلبية الفرنسيين (53%) انتخبوا رئيساً جديداً شديد الطموح وشديد الوضوح! لكن تُرى هل سيستطيع الرئيس تنفيذ برنامجه القاسي؟ بعض الإجابة ستحدده نتائج الانتخابات النيابية التي سيتوجه إليها الفرنسيون في السابع عشر من الشهر المقبل، لانتخاب نوابهم في الجمعية الوطنية الفرنسية، فإذا منح الرأي العام الفرنسي المتقلب أغلبية كبيرة إلى أحزاب المعارضة، وكانت نتيجتها انتخاب رئيس وزراء معارض لرئيس الجمهورية، فإن الرئيس سيجد نفسه أمام وضع صعب رغم الصلاحيات الكبيرة التي يمنحها له الدستور الفرنسي، وتلك حالة كثيراً ما تكررت في تاريخ فرنسا الديمقراطي. لكن الرئيس المحافظ المتشدد هو في ذات الوقت سياسي ماهر، فقد افتتح عهده -قبل تسلم مهام الرئاسة- بأن أعلن أنه يمد يديه لكل الفرنسيين لأنه يريد أن يصبح رئيس كل الفرنسيين!