في ظل حكومة "المحافظين" الحالية يبدو تراجع السياسة الخارجية الكندية عن الموقف التقليدي لكندا باعتبارها قوة سلام ونصيراً لدول العالم الثالث، أمراً ملحوظاً تدل عليه شواهد عديدة منذ صعود "المحافظين" إلى سدة الحكم العام الماضي. ولعل أبرز مظاهر هذا التراجع تظهر للمواطن الكندي- العربي في موقف حكومة "المحافظين" من الصراع العربي- الإسرائيلي وانحياز رئيس الوزراء -بلا تحفظ- إلى جانب إسرائيل عند بدء حربها الأخيرة على لبنان، وهو الأمر الذي أدى لتدني شعبية "المحافظين" وسط الجاليات العربية- الكندية بصورة كبيرة. لكن قضية دارفور السودانية ما تزال تحظى باهتمام واسع على المستويين الشعبي والرسمي، وتحظى بتعاطف وسط قطاعات شعبية وخاصة لدى الكنديين من أصحاب الديانة اليهودية. وربما يعود الاهتمام الكندي بقضية دارفور في بعض جوانبه إلى النشاط المحموم، الذي بذله ويبذله اللوبي الكندي- الدارفوري الذي عين نفسه بنفسه محامياً عن شعب دارفور المسكين "في مواجهة الاضطهاد وحرب الإبادة العنصرية التي يشنها عليه العرب المسلمون"! كما تقول بعض مقولاتهم الدعائية. خلال الأسبوعين الماضيين، عادت دارفور للواجهة الإعلامية الرسمية والشعبية، ليس بالقوة والزخم اللذين كانا في الصيف الماضي، ولكن أيضاً بصورة لافتة للنظر، فعلى الصعيد الرسمي أعلن وزير الخارجية في البرلمان عن تبرع حكومته بما يقارب 50 مليوناً من الدولارات (لدعم الجهود الحاسمة التي يبذلها الاتحاد الأفريقي في إقليم دارفور، وذلك بهدف الحماية للمدنيين وعمال الإغاثة الإنسانية الموجودين في الإقليم). وأكد أن حكومته تمارس ضغوطاً قوية في دعم قوة الاتحاد الأفريقي بانتظار نشر قوة مشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. وحقيقة الأمر أن الدعم المالي الكندي للاتحاد الأفريقي قد تجاوز منذ زمن، المبلغ الذي أعلن الوزير مؤخراً تبرع حكومته به. فقد كانت حكومة "الليبراليين" السابقة برئاسة "بول مارتين" قد التزمت وقدمت دعماً لقوة الاتحاد بما تجاوز مائتي مليون دولار، إضافة إلى دعم فني في وسائل الاتصال والمواصلات، وأبدت اهتماماً كبيراً بمأساة دارفور، حمله "مارتين" من أتوا إلى لقاء فريد مع الرئيس السوداني في الخرطوم. ولكن ليس هذا هو الدافع وراء كتابة هذا المقال، ما دفعني أن نائباً برلمانياً محترماً ووزيراً سابقاً، هو "كيني دارين"، كان قد قام بزيارة إلى السودان، بقصد أن يطلع بنفسه على حقيقة الأوضاع التي نتجت عن الحرب وآثارها الاجتماعية على حياة عامة الناس (كان وزيراً للرعاية الاجتماعية في الحكومة السابقة)، و"كين" قبل أن يصبح نائباً برلمانياً ووزيراً، هو شخصية شهيرة في كندا ويحظى بشعبية واسعة، فقد كان نجماً رياضياً لامعاً ومشهوراً، وعرف عنه منذ شبابه المبكر اهتماماته الصادقة بالعدالة الاجتماعية وانحيازه للمستضعفين إنسانياً وسياسياً. سافر "كين" -النائب والوزير السابق- إلى السودان، ووصل إلى دارفور، وعاد بأولى ملاحظاته المكتوبة ذات الدلالة العميقة التي تكشف عن وعي وحس اجتماعي متقدم، يفتقده كثير من السياسيين الكنديين الذين يتعاملون مع قضايا عالمنا البائس، بما تحمله من مانشيتات الصحف السيارة، وما تحققه من دعائية انتخابية لذواتهم وأحزابهم. قال كين: "إن أصعب وأقسى ما لفت انتباهي عند زيارتي لمعسكر النازحين قرب سوبا في ضواحي الخرطوم العاصمة القريبة من النيل، أن الناس من أطفال وشيوخ ونساء ما زالوا يعتمدون في حياتهم اليومية على الماء الذي تنقله الحمير من النيل إلى معسكراتهم"، وهو (منظر سجلته عدسات الكاميرا ونشرته بعض الصحف)، وأكد أن هذا المنظر سيبقى في ذاكرته ووعيه لزمن طويل. بهذه الكلمات البسيطة، لكن عميقة المعنى والدلالة، وضع السياسي الكندي الذي ذهب إلى السودان، أصابعه العشرة في قلب حقيقة الأزمة والمأساة السودانية التي فشلت وعجزت بعض النخب السودانية السياسية الحاكمة على مدى خمسين عاماً عن إدراكها ناهيك عن حلها. أزمة السودان الحقيقية التي كانت وستبقى، والتي قادت إلى أزمات الجنوب ودارفور والشرق والغرب والشمال، كل هذه الأزمات والمشاكل الجغرافية والإثنية وتوابعها هي فروع الأزمة الأم ونتاجها الطبيعي، التي جعلت السودان في مقاييس العالم واحداً من أكثر بلدان العالم فقراً وبؤساً في ظل حكم يدعي أنه يستمد مشروعيته من هؤلاء المساكين، الذين ما يزالون ينتظرون "الحمير" لتنقل إليهم الماء من النيل العظيم! عندما شاهدت الصور التي حملها "كين"، ليس من دارفور ولا من جبال النوبة أو جبال الأنقسنا، ولكن من منطقة سوبا (التي كانت يوماً ما عاصمة لمملكة يحكي عنها التاريخ)، شعرت بما هو أشد وأفظع من الألم والحزن. شعرت بالخجل، أن ترى عين أجنبية في لحظة من الزمن ما ظل يعيش بيننا كل ساعة وكل يوم وعجزت عيون سودانية أن تراه، لأنها مشغولة بتجميل العاصمة، لكي تصبح عاصمة الاستثمار الأولى في أفريقيا... والعالم العربي!