لقد ساد الغرب الكثير من سوء الفهم والتأويل، منذ أن ألقى الرئيس فلاديمير بوتين حديثه في مؤتمر ميونيخ، الذي عقد مؤخراً حول سياسات الأمن. ومما يرى من ردود فعل الصحفيين والساسة الغربيين، فإنه يخيل إلى المرء كما لو أن بوتين أراد أن يشعل فتيل حرب باردة جديدة مع الغرب. وقد تلقف تلك الفكرة كما هي، وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس، بقوله رداً عليها "كفانا حرباً باردة واحدة". وإني لأوافقه الرأي قلباً وقالباً، ولذا فإن علينا ألا نشعل فتيل حرب أخرى جديدة، ولا أن نسعى سعياً وراء الذرائع والمبررات للإعلان عنها. ففي وقت تبدي فيه روسيا استعداداً كبيراً لأداء دور إيجابي في الشؤون الدولية، وللاندماج في الاقتصاد العالمي، فإن معاملتها على أنها خصم وعدو، متى ما دب الخلاف بين واشنطن وموسكو، إنما تلحق خسارة وضرراً بالغين بالساحة الدولية كلها. وإحقاقاً للحق، فإنه ليس ثمة جديد في ما قاله بوتين في ميونيخ. ولم يكن في كل الذي أدلى به هناك شيء واحد لم تتم مناقشته مباشرة مع إدارة بوش، أو لم تهمس به الدوائر والأوساط السياسية في أوروبا. وإن كان بوتين قد جهر بما قال في مؤتمر ميونيخ، فإنه لم يفعل ذلك إلا بدافع الحرص على لفت الاهتمام العالمي، ودعوته لإدارة حوار مفتوح صريح حول طبيعة العالم الذي نريده لأولادنا وأنفسنا في المستقبل. ذلك أن بوتين يؤمن، شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره، بأنه لا يمكن لدولة واحدة فحسب، أن تبسط هيمنتها ونفوذها على العالم كله. وتدل شواهد التاريخ على أن عالماً أحادي القطب كهذا، كثيراً ما تكررت محاولات فرضه على الآخرين، إلا أن كل تلك المحاولات قد خابت وباءت بالفشل. والحقيقة أيضاً أن آخر الممارسات الأحادية، لم تساعد على حل المشكلات، كما كان يعتقد، بل زادتها تعقيداً وأوجدت بؤراً جديدة للتوتر الإقليمي والدولي. وإذا ما اطلعنا على نص الخطاب الكامل الذي ألقاه بوتين، سندرك أنه لم يكن ليهاجم الولايات المتحدة الأميركية، ولم يقدم بلاده على أنها قوة دولية موازية مناهضة للأحادية الأميركية. وعلى نقيض ذلك تماماً، فقد حاول بوتين طرح تصور لعالم جديد، تسوده عدة مراكز قوة ونفوذ، وتتكامل فيه شتى المصالح، ويتسم بالتعددية، في سبيل وضع قاسم مشترك أعظم لكافة القضايا الدولية. وما الصفقة النووية التي تمخضت عنها المحادثات السداسية، والتي أبرمت مع كوريا الشمالية مؤخراً، سوى دليل على إمكانية نجاح هذا النهج البراجماتي العملي. والحقيقة أيضاً -وخلافاً لما فهم خطأً- أن بوتين قدم من شواهد التوافق المتبادل مع واشنطن، أكثر مما قدم من أمثلة الخلاف معها. ومثلما لاحظ، فإن روسيا تعد شريكاً قوياً وفاعلاً في مكافحة الإرهاب وجهود حظر الانتشار النووي. كما أن لها دوراً كبيراً في الحفاظ على أمن الطاقة العالمي، وفق ما تم الاتفاق عليه في قمة الدول الثماني الكبرى التي عقدت مدينة سان بطرسبرج في شهر يوليو الماضي. ويحدثنا أصدقاؤنا الأميركيون عن أن بلادهم بحاجة كبيرة لدور روسيا وغيرها من الدول الرئيسية الأخرى، في حل الكثير من المعضلات الإقليمية. وعلى خلفية هذا القول، فكم تبدو أحادية بلادهم مثيرة للدهشة والاستغراب. وفي الوقت ذاته، كم يبدو غريباً وصف حديث بوتين بأنه خطاب تهديد وخطر روسي قادم! وإذا ما أقمنا الوضع على قدميه، فلنقل إن المواطنين الروس هم من يتساءلون قائلين: مَن يهدد مَن في واقع الأمر؟ فعلى إثر تفكيك حلف "وارسو"، منذ ما يزيد على الخمسة عشر عاماً، لمَ لا يزال خصمه "الناتو"، يفرد جناحيه وصولاً إلى الحدود الروسية؟! وكيف لروسيا أن تفسر سعي الولايات المتحدة لإنشاء نظم مضادة للصواريخ في دول أوروبا الشرقية؟ وبدلاً من الانضمام للجهود الرامية للتصدي للمخاطر والمهددات الدولية، فهل آن لروسيا وأميركا أن تقتنصا نقاط الضعف ومواضع الزلل في الحياة الداخلية لكل منهما؟ وبينما واصل الروس صراعهم ضد أعراض الفوضى والضعف التي ألمَّت ببلادهم، خلال السنوات الأولى من مرحلة ما بعد العهد السوفييتي، فربما نما لانطباع البعض أنه لن تقوم لهذه الدولة الكبيرة قائمة، ولن يسمع صوتها أبداً في الساحة الدولية. غير أن الحقيقة أن روسيا نهضت أقوى مما توقع البعض، من حريق ورماد حقبة التسعينيات. فاقتصادنا يواصل نموه وتتنوع مصادره، بينما يتطلع الشعب الروسي إلى التقدم والازدهار، اللذين يمكن تحقيقهما لمجتمعنا الجديد من خلال الابتكارات التكنولوجية وشتى البرامج الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، تجني الطبقة الوسطى النامية، الفوائد والمزايا التي تجلبها لها البيئة الاستثمارية الخصبة، التي تجتذب الآن المزيد والمزيد من رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية. فعلى سبيل المثال، فاق إجمالي تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى روسيا في العام الماضي وحده، الـ40 مليار دولار. لذلك فإن الشيء الوحيد ذا المعنى، هو أن نتمسك بموقفنا ووجهة نظرنا، وأن نتوقع لها أن تؤخذ على محمل الجد، سواء تعلقت وجهة النظر هذه، بالمسائل الأمنية الحيوية، أم بشروط التفاعل الاقتصادي مع الآخرين. وفوق ذلك، فإنه غير مطعون في التزامنا الأصيل بالديمقراطية، وفي عدم مساومتنا على حق الشعب الروسي في أن يقرر لنفسه ما يشاء، وفي أن يسمع رأيه في شتى القضايا والمحافل الدولية. وكما هو معلوم، فإن الخلافات تنشأ في أي علاقة ما مع الآخرين. ولكن ما أفدح الأخطاء التي يرتكبها المراقبون والمعلقون، بتحويرهم للإفصاح النزيه الصريح، عن الهواجس والهموم الدولية المشتركة، فيتخذون منه ذريعة لرمي الآخر ووصمه بما يريدون. وقد صح قول الرئيس بوش ذات مرة في أحد خطاباته: "إن هناك خلافات بين بلادنا وروسيا، غير أنها لا تنفي توفر أرضية مشتركة للتعاون على حل المشكلات". وها هي روسيا تجدد عزمها واستعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، على أساس الندية والاحترام المتبادل. وخلافاً لترويج اتهامات إثارتنا لحرب باردة جديدة، فإننا نتطلع إلى عالم ديمقراطي تعددي، تتعايش فيه روسيا القوية الناهضة، جنباً إلى جنب، مع كل من الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا القوية، وكذلك الصين والهند والبرازيل وغيرها. تلك هي رؤية فلاديمير بوتين، التي تستحق وتستأهل الاعتبار والنظر. سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"