إذا ما افترضنا أن الشرق الأوسط يمثل لوحة شطرنج، فإن الأوضاع فيه تعني أننا قد وصلنا إلى المرحلة التي يطلقون عليها في هذه اللعبة "كش ملك". وإيران الآن تبدو وكأنها تكسب في حين يبدو الأميركيون والعرب وكأنهم يخسرون، وأنه لم يعد في جعبتهم مزيد من البدائل الجيدة. ومنذ أن أعلن الرئيس جورج بوش منذ نحو أسبوعين قراره بإرسال مزيد من الجنود إلى العراق، ازداد الشق الذي يفصل الأميركيين عن تلك الحرب عمقاً عما كان عليه من قبل. فالمعارضون وقفوا وراء ما يعتبرونه تصعيداً لا داعي له، ولن يؤدي سوى إلى قتل مزيد من الأميركيين دون أن يؤدي في المقابل إلى تهدئة العراق، في حين أكد المؤيدون للإدارة أن البديل الوحيد لإرسال مزيد من القوات هو الهزيمة على النمط الفيتنامي، وما يرتبط بها ويترتب عليها من هوان لأميركا. وديك تشيني نائب الرئيس وزعيم "الصقور" الأميركيين ذهب إلى حد القول إن الانسحاب سيظهر الأميركيين في صورة الجبناء "الذين لا يمتلكون الشجاعة الكافية للقتال". وفي وسط هذا السجال المحتدم الذي يُسمع فيه صوت الأميركيين عالياً، فإننا نكاد لا نسمع للعرب صوتاً، كما لا نسمع أيضاً أصوات المراقبين الموضوعيين القادرين على تقييم الحقائق المطلوبة لإتمام النقلة المطلوبة في لعبة الشطرنج الشرق أوسطية. وفي رأيي أن الخطوة الأولى والأكثر أهمية نحو الحل، هي إجراء عملية تقييم دقيقة للموقف كما هو عليه في الوقت الراهن على الأرض، ومقارنته بالهدف الأصلي للغزو الأميركي وهو الإطاحة بصدام حسين من السلطة في العراق. وبصرف النظر عما إذا كان الأميركيون قد جاءوا للسيطرة على النفط أم لتخويف إيران أم لخلق عراق جديد يعمل الشعب العراقي في إطاره على الانتقال من نظام ديكتاتوري رهيب إلى مجتمع متمدن ومنظم على الطراز الغربي. وثمة سؤال يطرح نفسه هنا، هو: هل لا يزال هناك أي أمل جدي في أن يكون بمقدور الأميركيين حقاً إرشاد الشعب العراقي وحكومته إلى كيفية إقامة مجتمع ديمقراطي تعددي يكون نموذجاً لتحقيق الاستقرار الإقليمي؟ الإجابة إذا ما شئنا أن نكون منصفين هي بالطبع: لا. وهناك أيضاً سؤال آخر يقفز إلى أذهان الكثيرين وهو: هل الهدف الآخر لأميركا، وهو إعادة تشكيل الشرق الأوسط وإدماجه في تحالف جديد مع الغرب، لا يزال ممكناً حتى الآن؟ إذا ما أخذنا عدوانية إيران والوضع المتدهور في لبنان وفلسطين، فإن الإجابة على هذا السؤال أيضاً هي:لا. فمن الواضح -فيما وراء العراق- أن الشرق الأوسط أبعد ما يكون الآن عن التحول إلى منطقة مستقرة تركز جهودها على التطور الاقتصادي والاجتماعي، وأن العكس تماماً هو الصحيح حيث تتجه هذه المنطقة نحو فصل جديد شديد الدموية من الحروب الطاحنة والصراعات الإقليمية. وإذا ما أخذنا كل تلك الحقائق في الحسبان فإننا نستطيع القول إن "المشروع" الأميركي قد فشل، وإنه ليس هناك أي معنى في إطلاق صيحات الابتهاج أو ذرف دموع الرثاء أو التساؤل عما إذا كان هذا المشروع جيداً أم رديئاً، وأن الشيء الذي ينبغي علينا فعله في الوقت الراهن هو ملء الفراغ. إن ما لدينا في العراق حالياً هو حكومة عراقية تقيم علاقات ودية للغاية مع إيران إلى درجة يجوز معها القول إنها متحالفة مع طهران من أجل تحقيق أهداف إقليمية إيرانية، وهي أهداف ذات طبيعة ثورية وجهادية من المؤكد أنها ضد الغرب وضد الولايات المتحدة. هل هذا شيء يمكن للعرب التعايش معه؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو الشيء الذي يتعين عليهم فعله في هذا الشأن؟ ثم ما هو الشيء الذي يمكن للأميركيين فعله حيال هذا الشأن أيضاً؟ كل هذه الأوضاع القائمة على الأرض، سواء في العراق أو في منطقة الشرق الأوسط، تختلف تمام الاختلاف عما كان عليه الأمر أيام كان صدام حسين على رأس السلطة في العراق، حيث كان ينظر إليه على نطاق واسع على أنه سد منيع ضد الأطماع التوسعية الإيرانية. والشاهد الآن أن إيران قد انتزعت زمام المبادرة من العرب، سواء في الساحة اللبنانية عن طريق دعم وتمويل "حزب الله"، أو في الساحة الفلسطينية عن طريق دعم وتمويل "حماس"، وعلى الصعيد العسكري أيضاً حيث تسعى إلى تدعيم قوتها العسكرية بالقدرات النووية. صحيح أن الدول السُّنية الكبيرة في المنطقة، مثل السعودية ومصر والأردن ودول الخليج، قد بدأت في تنظيم تحرك مضاد، ولكن السؤال هو: هل يمكن مقارنة ما تملكه هذه الدول من قوة ونفوذ بما تملكه إيران من قوة ونفوذ؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستحيلنا إلى التطور المحزن الذي وصلت إليه الأمور والأوضاع في الشرق الأوسط، وإلى أن الدول العربية مجتمعة لا تستطيع التصدي لإيران ووكلائها في المنطقة. أما الولايات المتحدة فهي مشغولة حتى أذنيها بالدفاع عن نفسها في العراق وبالتالي فإنها ليست في وضع يسمح لها بتقديم المساعدة إلى أي دولة أخرى، حتى حليفتها الوثيقة إسرائيل التي تجد نفسها هي الأخرى في مواجهة تحد خطير من المسلحين التابعين لحركات المقاومة الفلسطينية، دون أن تجد من يساعدها في هذه المواجهة. إن الاصطفاف في تحالفات استراتيجية جديدة، وتوزيع القواعد العسكرية داخل وحول العراق، واستخدام مزيد من القوة العسكرية... لا تبدو كلها كخيارات واقعية يمكنها أن تغير أياً من الحقائق القائمة حالياً في المنطقة. لذلك كله أعود إلى ما بدأت به هذه المقالة وأقول إن لعبة الشطرنج قد وصلت إلى النقطة التي يقول فيها الإيرانيون لغيرهم "كش ملك". السؤال هنا ما الذي سيفعل الآخرون في مواجهة ذلك؟ إنني أسمع الكثيرين من العرب يصيحون، ولكنني لا أرى أي محاولة لملء لفراغ، فإيران تعرف ما الذي يتعين عليها أن تفعله، فهل يعرف العرب إلى أين يريدون أن يمضوا هذا هو السؤال الذي يطرحه الأميركيون الذين تعاملوا مع الأمور على نحو سيئ للغاية إزاء أصدقائهم من العرب. قد يكون مرضياً للأميركيين أن يهينوا العرب ويقولوا لهم إنهم هم الذين تسببوا في كل المشكلات، ولكن ذلك لا يصلح لأن يكون بديلاً عن خطة ومسار صحيح للعمل. فالشيء المرضي حقاً في رأيي بالنسبة للأميركيين هو أن يقدموا خطة بديلة لخطتهم الأصلية التي فشلت فشلاً ذريعاً.