تحولات إسرائيل وتحولاتنا
وسط الفوضى السياسية الشاملة التي نعيشها في العالم العربي، نكاد ننسى ماذا يحدث في إسرائيل. وثمة ما يبرر هذا النسيان بالطبع. فنحن ندرك ولو بصورة باطنية أن "بيتنا الداخلي" أهم مئة مرة من متابعة ما يحدث حتى في البيت الداخلي لأعتى خصومنا الإقليميين: أي إسرائيل. ولكن هذه الحجة لا يجب أن تمنعنا من استنباط دلالات ما يحدث في إسرائيل لأن هذه الدلالات تختلط وتتداخل مع ما يحدث في بيئتنا الإقليمية ومصيرنا السياسي كأمة وكإقليم. ثم إن هذا التداخل ينعكس بصورة أو بأخرى على مواقفنا وعلاقاتنا الدولية بما فيها مواقفنا من إسرائيل بصورة واعية أو غير واعية.
وعلى سبيل المثال فإن الدول العربية لم تعترض على قرار إجماعي للأمم المتحدة يدين إنكار المحرقة اليهودية. وقد يعكس تماشي العرب مع هذا القرار وعياً جديداً نسبياً بأن قضية المحرقة لا تهمنا في شيء، سواء وقعت وفقاً لتفاصيل الرواية الصهيونية أو بطريقة أخرى. إذ ليس للموضوع بذاته أدنى تأثير منطقي أو قانوني أو حتى سياسي على حقوق الشعب الفلسطيني, بل ولا يبرر قيام دولة إسرائيل بالضرورة. كما أن هذا التماشي قد يعكس قدراً من فهم اللعبة السياسية ورد فعل مقتدر لهذه اللعبة. فربما كان أحد أهداف هذه اللعبة أن يقع تناقض بين العرب والعالم إن تصدوا لهذا القرار الذي يحظى بموافقة غالبية دول العالم.
ولكنه قد يعكس أيضاً أمراً آخر تماماً.
فاهتمام الأميركيين بإصدار هذا القرار هو استمرار وتعزيز للسياسة الأميركية التي ترى أن موقف الدول الأخرى من القضايا التي تهم إسرائيل هو المحك للعلاقة مع الولايات المتحدة ذاتها, ولا تقبل الدبلوماسية الأميركية أدنى تحفظ مهما كان نزيهاً وعادلاً فيما يتعلق بما تراه إسرائيل. ويمثل هذا الاهتمام الفائق الذي يحول قضية أكاديمية، لا تخلو بالطبع من دلالة سياسية، إلى موقف سياسي صرف، استمراراً للتطرف المتزايد في الدعم الأميركي والأوربي لإسرائيل وللحركة الصهيونية العالمية. ومن هذا المنظور قد نقرأ معنى آخر تماماً في مواقف الدول العربية نحو هذا القرار: أي استعداد العرب المسبق للتماشي مع السياسة الأميركية بدون تساؤلات أو طلبات أو مقابل أو حتى مجرد ضمان التناسق القانوني والمبدئي للمواقف الدبلوماسية والقانونية. وعلى سبيل المثال كان من الممكن مثلاً، ولو من الناحية النظرية أن تطلب الدول العربية إصدار قرار مماثل ينص على إدانة إنكار مسؤولية إسرائيل عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين أو أن تطلب إدانة إنكار مسؤولية الغرب عن تجارة العبيد أو إدانة إنكار مسؤولية الاستعمار الغربي الحديث عن تفاقم مشكلات التخلف وغيرها من المشكلات التي تعاني منها دول الجنوب وخاصة أفريقيا وعلى رأسها الصراعات العرقية. وبطبيعة الحال كان من المتوقع أن ترفض بعض الدول إصدار هذه القرارات بغض النظر عن أطنان البحوث التاريخية التي تثبت هذه الوقائع. وكانت الجزائر قد تلقت رفضاً فرنسيا للاعتراف بالمسؤولية عن بعض أبشع الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية الفرنسية ضد الشعب الجزائري. ولا يفصل هذا الرفض- الذي اتضح أثناء زيارة ساركوزي وزير الداخلية الفرنسي للجزائر- عن قرار الجمعية العامة بخصوص "المحرقة" سوى نحو ثلاثة أشهر! وحتى لو لم أكن عربياً وكنت في نفس الوقت مهتماً بالجوانب الأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان لطلبت على الأقل إضافة جملة واحدة لهذا القرار وهو "أنه لا يشكل إجحافاً بالحريات الأكاديمية".
وفي جميع الأحوال فإن دلالة الاهتمام الفائق للولايات المتحدة بإصدار هذا القرار حول قضية واحدة من القضايا الكثيرة التي تثيرها جرائم إبادة الأجناس والجرائم ضد الإنسانية، بما فيها تلك التي ارتكبها النازيون ضد شعوب أخرى غير اليهود، ينم عن "مبالغة أحادية الجانب" في دعم إسرائيل على حساب قواعد العدالة الدولية.
وهذه المبالغة تنسجم وتتوازى مع حقيقة أخرى نشهدها في السياسة الإسرائيلية وهى الجنوح الخارق نحو اليمين المتطرف من جانب الرأي العام الإسرائيلي. فبعد أقل من ستة أشهر على الانتخابات الإسرائيلية، تنزلق حكومة إيهود أولمرت إلى الحضيض لدى الرأي العام الإسرائيلي لحساب حزب "الليكود" والأحزاب الأخرى الأشد يمينية. وتقول استطلاعات الرأي العام إن ليبرمان المعروف بتشدده الأحمق وتصريحاته الخرقاء ضد العرب وضد كافة خلق الله، يمكن أن يصبح رئيساً لوزراء إسرائيل لو خاض الانتخابات العامة الآن ضد أولمرت وبيرتز. ويبدو أن التفسير المقبول في إسرائيل لهذا الجنوح الخارق هو أن الرأي العام الإسرائيلي يرى الرجلين الأخيرين "شديدي الضعف" في مواجهة العرب, رغم أنهما ارتكبا أشد الجرائم ضد الإنسانية فظاعة في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية أثناء العدوان الإجرامي ضد لبنان في شهري يوليو وأغسطس الماضيين وفي حربهما المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني. ولا يقل عن ذلك أهمية أن الحركة الصهيونية العالمية تزداد بدورها تطرفاً وتشدداً؛ سواء حيال الفلسطينيين أو حيال السياسة والثقافة العربية والإسلامية عامة.
ورغم كثرة حديث الإسرائيليين عن "إهدار أو إضعاف" ما يسمونه "الردع الإسرائيلي"، فان إسرائيل تعيش أفضل أيامها بالمقارنة مع الحالة العربية. فقد نجحت إسرائيل مع أميركا في دفع الفلسطينيين إلى حافة الحرب الأهلية. ونجحت أميركا مع إسرائيل في تركيز سخط العالم على إيران لمجرد الشك في أن مشروعها النووي يتضمن بعداً عسكرياً رغم أنه ليست هناك شكوك تذكر حول امتلاك إسرائيل لترسانة كبيرة من الأسلحة الذرية. وبذلك نجحت أميركا مع إسرائيل في تمهيد الأجواء العالمية للقيام بعدوان عسكري ضد إيران. والأهم من ذلك كله، وهذا هو بيت القصيد وأكثر الظواهر الإقليمية والدولية غرابة وتشوشاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن إسرائيل وأميركا نجحتا في تصوير الوضع الإقليمي وكأن هناك تحالفاً مضمراً بين العرب وإسرائيل ضد إيران! وفي سياق ذلك كله بهتت القضية الفلسطينية بصورة غير مسبوقة في الحسابات السياسية وفي أذهان العالم بل والعرب أيضاً. وحتى لو افترضنا نجاح العرب في دفع أميركا لإحياء دبلوماسية التسوية، فإن العملية الدبلوماسية ستعكس حتماً هذا الواقع البعيد تماماً عن التوازن.
كيف يمكن للعرب- نظرياً على الأقل- التعامل مع هذا الواقع المعقد؟ يكمن الحل السليم في إعادة هيكلة السياسة العربية والإقليمية لوضع أجندة عمل ومواقف صحيحة حيال خريطة التهديدات للمصالح الجوهرية العربية واستعادة مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العالمي وفي السياسات الدولية. ورغم أن هذه الضرورة مؤجلة حتى إشعار آخر، لا يمكن لأي مراقب عربي أن يكتفي بالانتظار. فثمة أشياء يمكن حتى للمجتمع المدني العربي أن يضطلع بها لصالح القضية الفلسطينية، وفي مواجهة موجة التحول اليميني الخارقة في إسرائيل وفي السياسات الصهيونية العالمية.
تمثل الجهود الرامية لاستعادة مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي والعالمي إنجازاً مزدوجاً. فمن ناحية تعد هذه الجهود ضرورية للغاية من أجل دفع السياسة الدولية لإدراك استحالة أية معالجة لمشكلات الشرق الأوسط بدون استرداد حقوق الشعب الفلسطيني وإعمال قواعد العدالة الدولية الغائبة. وهى من ناحية أخرى قد تصحح الاصطفافات وعمليات الفرز الطائفي التي تدمر نسيج المجتمعات العربية والإسلامية وتحقق لإسرائيل وأميركا أعظم أمانيهما: أي تعريب وأسلمة الصراع في المنطقة. فمن العار أن نطبق الأجندة الأميركية والإسرائيلية على حسابنا, ومن العار أن يقتل بعضنا بعضاً لحساب إسرائيل وأميركا.