في الوقت الذي يزداد فيه القلق من قيام مئات الملايين من السيارات والحافلات والشاحنات والقاطرات بضخ سموم كغاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء، مما يسبب ارتفاعاً حاداً في درجات الحرارة، ويهدد بإحداث تغير مناخي بالغ الأثر، يغيب عن أذهان معظمنا مصدر آخر مهم للغازات المسببة للاحتباس الحراري. فمن منا خطر على ذهنه أن وجبات اللحم التي نتناولها يومياً أو على نحو مستمر، هي المسؤول الأول عن ظاهرة التغير المناخي؟! فوفقاً لتقرير جديد أصدرته وكالة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو" مؤخراً، اتضح أن الماشية تفرز حوالى 18 في المئة من إجمالي الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري. بقي أن نقول إن هذه النسبة، أعلى مما تفرزه كافة وسائل النقل والمواصلات المستخدمة عالمياً! وفي حين تفرز الماشية المرباة في المزارع بصفة خاصة، نسبة 9 في المئة من ثاني أكسيد الكربون المرتبط بالنشاط الإنساني، إلا أنها تفرز نسبة أعلى من تلك، من هذه الغازات الأشد ضرراً من ثاني أكسيد الكربون. ذلك أنها تعد المسؤولة عن إنتاج حوالى 65 في المئة من انبعاثات أكسيد النترات ذات الصلة بالنشاط البشري، مع العلم بأن هذه الأكاسيد تفوق قدرة ثاني أكسيد الكربون على رفع درجات المناخ العالمي، بحوالى 300 مرة على أقل تقدير. وليس ذلك فحسب، بل تفرز الماشية حوالى 37 في المئة من غاز الميثان –المرتبط أيضاً بالنشاط البشري- علماً بأنه يفوق غاز ثاني أكسيد الكربون بحوالى 23 مرة في تأثيره على ظاهرة الاحتباس الحراري! وتحتل الماشية نسبة 26 في المئة من المسطح الأرضي الخالي من الغطاء الجليدي. وبالقدر ذاته من الأهمية، فقد خصص ما يزيد على ثلث المساحة الكلية القابلة للزراعة من كوكبنا، لزراعة المحاصيل الزراعية الصالحة لعلف الماشية، بدلاً من تخصيصها للمحاصيل التي تعتمد عليها حياة البشرية. والمعروف تقليدياً أن الماشية تعتمد في علفها على الأعشاب. ولكن الذي حدث مع بزوغ شمس القرن العشرين، هو بدء تحويل مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الصالحة لإنتاج الحبوب التي تعتمد عليها حياة المجتمعات البشرية، إلى مساحات تزرع فيها الحبوب المخصصة لعلف الماشية، كي يتمكن الأغنياء من تناول لحوم الماشية المغذاة بأعلاف تلك الحبوب ومنتجاتها. ونتيجة لهذا التوسع الهائل في تخصيص المزيد من الأراضي الزراعية لإنتاج علف الماشية، فقد جرى تشريد ملايين المزارعين الفقراء من أراضيهم الخصبة الوفيرة الإنتاج، إلى أراضٍ زراعية أقل إنتاجاً. أما في بعض الحالات، فقد تم اجتثاث هؤلاء كلياً من تلك الأراضي، ما جعل من العسير عليهم، توفير ما يكفي حياتهم اليومية من سعرات حرارية لازمة لبقائهم في الوجود. كما أضحى التوسع الهائل لحرفة تربية الماشية ومجمل الصناعات الأخرى المرتبطة بها، وباءً عالمياً، له إحصاءاته ومفارقاته البالغة الخطر. وليس أدل على ذلك من شواهد التهام الماشية وحدها، لنظم بيئية كاملة في بعض الأحيان. ولنذكر لذلك مثلاً بإزالة جزء كبير مما تبقى للبشرية من ثروة الغابات المطرية -مثلما هو حال غابات الأمازون-، بغرض تحويلها إلى مساحة زراعية صالحة لإنتاج العلف الحيواني. وفي الوقت ذاته، تواصل الأراضي الزراعية الخصبة على نطاق العالم بأسره، انحسارها جراء ممارسات الرعي الجائر المنتشرة فيها، في حين يستمر تلويث مياه الشرب النظيفة الصالحة المتبقية للبشرية، بسبب تراكم المخلفات الحيوانية والمبيدات الزراعية فيها. ثم إن المتوقع أن يزداد الأمر كله سوءاً على سوء في المستقبل القريب للبشرية. ذلك أن تقرير منظمة "الفاو" المشار إليه، قدر أن استهلاكنا للحوم الماشية، سيتضاعف بحلول عام 2050، بكل ما يترتب عن ذلك من عواقب كارثية وخيمة على البشرية نفسها، وعلى الغلاف الجوي لكوكب الأرض. ولذلك، فقد حذرت "الفاو" من هذه الكارثة، وحثت المجتمع الدولي على ضرورة خفض الأثر البيئي السلبي الناجم عن كل وحدة من الوحدات المساحية المخصصة لتربية الماشية، بمعدل النصف، حرصاً على تفادي الدمار الهائل الذي تلحقه هذه الحرفة، ولدرْء تدهور الوضع إلى مستوى أسوأ مما هو عليه الآن. ولم تكتف المنظمة الدولية بتلك التحذيرات فحسب، بل مضت إلى اقتراح حزمة من الحلول الممكنة لهذه المعضلة، بما فيها ضرورة تبنينا للوسائل المحسنة لكيفية الحفاظ على التربة، وكذلك تحسين الأعلاف المقدمة للماشية، بهدف خفض انبعاثات غاز الميثان، فضلاً عن تحسين وتطوير نظم الري المتبعة حالياً. لكن ومع ذلك، يظل تقرير "الفاو" وتوصياته، مثيرين للسخرية والضحك، طالما أنهما لم يتصديا للمعضلة الأهم والأشد وضوحاً كما الشمس في كبد السماء. وتتلخص هذه المعضلة في تزايد اعتماد وجباتنا الغذائية على لحوم الماشية، في قرننا الحالي، أكثر من أي وقت مضى. وغني عن القول إن هذا الازدياد الملحوظ في نسبة استهلاكنا للحوم، إنما يتم في الأساس على حساب صحة كوكب الأرض وعافيته، ومن ثم على حساب توازنه البيئي. ولما كان الحال كذلك، فإن من الطبيعي أن يتساءل المرء عن سبب إحجام التقرير المذكور عن أي إشارات –سوى تلك العابرة منها- لضرورة تحول عدد أكبر من البشرية نحو الوجبات الغذائية النباتية، بدلاً من الاعتماد الحالي على اللحوم؟ لماذا لم تشمل توصيات التقرير، خفض استهلاكنا للحوم، مقابل زيادة استهلاكنا للأغذية النباتية؟! لعل أحد التفسيرات الممكنة لهذا الصمت، هو أن قطاع صناعات الماشية وتربيتها، يعد القطاع الأسرع نمواً في الاقتصاد الزراعي العالمي، وأنه يوفر حوالى 1.3 مليار وظيفة، علاوة على كونه يسهم بنحو 40 في المئة من إجمالي الإيرادات الزراعية العالمية. ويجدر القول إن صحيفة "نيويورك تايمز" نفسها، وهي في طليعة الصحف الأميركية المدافعة عن البيئة، قد نحت للالتواء والمراوغة فيما يتصل بالتصدي لخطر اعتمادنا على اللحوم في وجباتنا الغذائية. فبعد أن أشارت الصحيفة إلى العواقب الكارثية الوخيمة التي تخلفها الماشية على البيئة –في معرض تعليقها على تقرير "الفاو" المذكور- إلا أن افتتاحيتها قالت: "ولطالما أنه ليس من المتوقع أن يتراجع حب البشرية للحوم في أي وقت في المستقبل القريب المنظور، فإن الحل يكمن في الدفع باتجاه صناعة الماشية وتربيتها، إلى اتجاهات أكثر استدامة وحفاظاً على البيئة". وهكذا تكون قد فاتت على كل من منظمة "الفاو" والصحيفة معاً، حقيقة أن "الاستدامة" المشار إليها، لا تعني شيئاً آخر سوى ضرورة خفض البشرية لمعدلات ونسب استهلاكها للحوم. وهناك من يناصر هذا القول بالدفع بحجة أن البشر هم في الأساس من الكائنات اللاحمة، وأنه لا غنى لهم البتة عن تناول اللحوم، من أجل الحفاظ على صحتهم وعافيتهم. والحقيقة أن هذا القول محض هراء، ولا أساس له من الصحة. والشاهد أن تطورنا البيولوجي، قد هيأنا للاعتماد بشكل رئيسي على الفواكه والخضروات، مع التناول العرضي العابر فحسب لقدر قليل من اللحوم. وعلى نقيض ذلك، فقد بلغ استهلاك المجتمع الأميركي اليوم للحوم، حداً يفوق طاقة الجسم البشري على امتصاص ما تحتويه من بروتينات، ما يسبب للكثيرين منهم عدداً لا يحصى من الأمراض والعلل. وهذا ما ينسف كل الأباطيل والترهات المنسوجة حول أهمية اللحوم كمصدر رئيسي للبروتينات التي تحتاجها أجسامنا. أما الحقيقة العلمية المثبتة، فهي أن في وسع وجبة غذائية متوازنة وقائمة على النباتات، أن تمد الجسم البشري بكل ما يحتاجه من بروتين وصحة وعافية. وفي ختام هذا المقال، فإنه لا مناص من الإقرار بخطورة ما أشار إليه تقرير "الفاو" الذي أوجزناه آنفاً. وبما أن الماشية تقع عليها المسؤولية الأكبر عن ارتفاع درجات الحرارة والتغير المناخي، بما لا يقاس إلى مسؤولية وسائل النقل والمواصلات عن الظاهرتين المذكورتين، فلماذا لا نكرس المزيد من الوقت والجهد والاهتمام، عبر سياساتنا العامة ووسائل إعلامنا بمختلف أشكالها، لهدف الحد من "إدماننا للحوم"، بقدر ما نتحدث عن ضرورة الحد من "إدماننا للنفط"؟!