هستيريا الحوار في السياسة
لا شيء يدمّر روح مناقشة الحدث السياسي العربي أكثر من ظاهرة الاستقطاب المبالغ فيه عند تحليل ذلك الحدث أو التعليق عليه أو أخذ المواقف تجاه أبطاله. والاستقطاب في كل شيء لا يمكن إلا أن يؤدّي إلى التضاد والصّراع لإقصاء الآخر وتدميره. إن ذلك لا يلوّث الحياة السياسية فقط، بل يجعل الممارسة الديمقراطية، المبنيّة على الأخذ والعطاء وتعدّد الرّؤى، أمراً مستحيلاً. ومما زاد في ترسيخ عادة ممارسة الاستقطاب، بل والتفنُّن في تنويعها، برامج الفضائيات العربية التي باتت تعتقد بأن حيادها وموضوعيتها لا يثبتهما إلا عرض الرأي والرأي الآخر بصورة حادّة وصاخبة وعدائية. وفي هذا العرض، أو الاستعراض المسرحي أحياناً، تضيع الوسطية ورؤية الأمور من كل الزوايا والموضوعية في الأحكام. وتؤجّج تلك المناقشات الاستقطابية الإقصائية للفكر الآخر مشاعر المشاهدين فتتّسم كل تعليقاتهم ومداخلتهم بالغلو والانحيازات الجاهلة المسطّحة وبغياب أي تسامح. وهكذا يساهم الخطاب الاستقطابي في السياسة والإعلام في بناء عقبة ثقافية أخرى أمام انتقال المجتمعات العربية إلى الديمقراطية.
وليست القضية هي الاختلاف في المنطلقات الفكرية الأيديولوجية بين المتواجهين؛ فمثل هذه الاختلافات مقبولة بل ومطلوبة لإنضاج الحياة السياسية، وإنما القضية هي ممارسة أسلوب لاعقلاني في الحوار، حوار، كما يقول الكاتب جوزيف جوبرت، ليس هدفه التقدم وإنما الانتصار.
مناسبة هذا الحديث هي الفوضوية والهمجية عند مناقشة ما يجري حالياً في الوطن العربي والشرق الأوسط. فقد اختلطت الأمور وتعقَّدت بحيث أصبح الخوض في مجرياتها يستوجب يقظة وتوازناً في الخطاب وشمولية وعمقاً في التحليل والفهم. دعونا نضرب عدداً من الأمثلة. فعندما يناقش الملف الإيراني فإن الغضب تجاه سياسات إيران، الثأرية والخاطئة في العراق، تلحق بها شتيمة "الدولة الفارسية المجوسية الصفوية"، وتعمى البصيرة عن أن ترى أي جانب لإمكانية التقاطع في المصالح بيننا وبينها. والأمر نفسه ينطبق على مناقشة نظام الحكم السابق في العراق؛ فطريقة التفكير الاستقطابي لا ترى فيه إلا الأخطاء والحماقات العسكرية التي ارتكبت بين الحين والآخر، لكنها ترفض رفضاً مطلقاً الحديث عن أيّ من الإنجازات العلمية والفنيّة والصناعية والاجتماعية التي تحققت في عهده. وفي لبنان فإن الاختلاف مع المقاومة في مواقفها السياسية المعارضة أو في تحالفاتها الإقليمية، يقود المختلفين إلى إنكار انتصاراتها بتحرير الجنوب اللبناني ومناهضة المشروع الصهيوني الاستعماري. وفي فلسطين يؤدّي الاختلاف مع حركة "حماس" في بعض مواقفها إلى تشويه سمعتها وإنكار سجلّها النضالي الساطع. وحتى عند الحديث عن الحكومات المحليّة يؤدّي الاستقطاب إلى الهجوم العنيف المشروع على الإخفاقات وعلى كل أنواع التقصير، ويعمي البصر عن رؤية أية إنجازات.
في جميع الحالات السابقة يبدو جلياً أنه لا أحد يؤمن بالتعددية التي يكثر الحديث عنها في هذه الأيام. ويخطئ من يعتقد أن التعدديّة، وهي من أهم أسس الديمقراطية السياسية، تقتصر فقط على تعددية القوى السياسية، ذلك أن التعددية الفكرية والعقدية والإيديولوجية والتقييمية تسبق ذلك، بل هي شرط من شروط التعددية السياسية الناضجة.
هناك قول للرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت مؤداه أنه شيء جيّد أن نطلب الحرية لأنفسنا ولمن يوافقوننا الرأي، ولكن أفضل من ذلك أن نعطي الحرية أيضاً لمن يخالفوننا الرأي. ثقافة الاستقطاب والتّمركز عند الرأي الشخصي، دون أدنى اعتبار للرأي الآخر، ستمنع ذلك التوجه الإنساني الرفيع وستجعل مداولاتنا عبارة عن ممارسة لمرض الهستيريا بصراخها وإغماءاتها وكذبها على النفس، الأمر الذي يجعلنا وكأننا تحت تأثير تنويم مغناطيسي يمنعنا من إجراء أيّ نقاش أو حوار معقول!