ما هو وجه الشبه بين الحكومة العراقية والإدارة الأميركية و"المحاكم الإسلامية" في الصومال؟ إنها النزعة الشديدة إلى ارتكاب الأخطاء الاستراتيجية والمصيرية، رغم وجود اختيارات أفضل ومساحة أوسع للتفكير والاجتهاد. فالحكومة العراقية مثلاً متهمة بالطائفية أو على الأقل مخترقة طائفياً، وبالتالي يكون المتوقع منها أن تنفي هذه التهم، وتسعى لإثبات أنها حكومة وطنية لكل العراقيين، ولكنها اختارت غير ذلك يوم وقع رئيس وزرائها نوري المالكي، في ليل، قرار إعدام الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين في يوم عيد الأضحى المبارك، بينما كان أمامه ألف اختيار واختيار، أولها أن يقدم هيبة الدولة، والقدرة على التسامح، والسمو على الغضب، ولكنه اختار أن تتحول العدالة إلى انتقام وكراهية، فتحول الطاغية إلى شهيد وبطل، وصدم بقراره مشاعر الرأي العام الإسلامي، وأهم منه شريحة واسعة من أبناء العراق ممن يفترض أن يكونوا أبناءه وإخوانه، فهو زعيم لكل العراقيين، أو هكذا ينبغي أن يكون. وهنا أتوقف أمام خطيئة أخرى في العراق المُمزق، لماذا تواضعت طموحات زعمائه اليوم، فاستسلموا للفرز الطائفي وقبلوا أن يكونوا زعماء لطوائفهم وليس لكل شعبهم؟ إنه لأمر منكر، لم يقع فيه فيصل الأول مؤسس العراق الحديث، رغم أنه قدم من خارجه، من دون خبرة مسبقة في حكمه، ولكنه فهم أن دوره هو توحيد هذه الدولة الوليدة بأن يكون أباً لكل العراقيين، وهو دور حاول تقمصه كل زعيم أتى للعراق من بعده، من نوري السعيد الكردي إلى عبدالكريم قاسم الشيعي، إلى صدام حسين السُّني. ربما لم يكونوا مُقنعين لكل العراقيين، أو غير مقبولين منهم جميعاً، ولكنهم حاولوا أن يكونوا زعماء لكل العراق. فلماذا يتخلى زعماء العراق اليوم طواعية عن هذا الموقع الوطني ويتخندقون في حارة الطائفة؟ ولمَ هذه النزعة الشديدة لارتكاب الأخطاء غير الضرورية؟ أما الولايات المتحدة، المتورطة في العراق إنْ بقيت، والمتورطة إنْ رحلت، والتي لم تهضم بعد تقرير لجنة الكونجرس الشهيرة "بيكر – هاملتون"، والتي ما كانت لتظهر إلى الوجود لولا تعدد أخطاء الإدارة الأميركية وكثرتها منذ ارتكاب الخطيئة الأم وهي الغزو نفسه، والتي أدركت واعترفت أن صورتها سيئة في العالم العربي والإسلامي، فشكلت إدارة معنية بالعلاقات العامة تهدف إلى إصلاح ما أفسده الدهر (والأخطاء المتعاقبة) بينها وبين العرب والمسلمين، وبالتالي فما كان يتوقع من حكومتها إلا أن تكون أحرص من أن تقع في خطأ آخر، وهذه المرة خطأ غير ضروري وهو إعدام صدام في يوم عيد، وقبيل اكتمال محاكمته. لم يقتنع ولن يقتنع أحد بأن الولايات المتحدة حاولت ثني الحكومة العراقية عن تنفيذ الإعدام في ذلك اليوم، فالرجل كان في عهدتها، بل إن العراق كله لا يزال في عهدتها. لم يكن هناك ثوار على أبواب السجن يريدون تحرير زعيمهم، ولا ينقص القوم الخبراء الذين يقولون لهم ولو في آخر خمس دقائق "أو بس... غداً عيد المسلمين الأكبر، وقد لا يكون لائقاً إعدام صدام فيه"، فهل هي رغبة جامحة للوقوع في خطأ آخر؟ بعيداً وإلى الصومال، حيث "المحاكم الإسلامية" تنافس من سبق ذكرهم في الجري وراء الأخطاء للوقوع فيها، فرجالها يعلمون أنهم مستهدفون، وغير مرحب بهم ولا بصعودهم إلى سدة القرار في الصومال، ولا يريد أحد من القوى الإقليمية ولا الدولية رؤية "إمارة إسلامية" أخرى، بعد تجربة "طالبان" المُرة، ويعلمون أن الولايات المتحدة تكيد لهم، وإثيوبيا تتحرق إلى مواجهتهم والقضاء عليهم قبل أن يستقر أمرهم ويشتد عودهم، وتتطلع وهي محقة في ذلك إلى قيام حكم صديق لها في الصومال، يعيد لها بعض التوازن الإقليمي الذي خسرته نتيجة العداء الشخصي الأحمق مع إرتيريا وزعيمها، ويوفر لها أيضاً منفذاً إلى البحر بعدما سدت إرتيريا عليها المنافذ، وكانوا يعلمون أنهم وإن ملكوا الأرض فإنهم فاقدون للشرعية الدولية التي اختصت الجامعة العربية والمجتمع الدولي حكومة الصومال الانتقالية بها، وجاءت "المحاكم الإسلامية" الفرصة في الخرطوم، عندما دخلت في مفاوضات وهي في موقع القوة مع الحكومة الانتقالية، فكان منهجها كمنهج "طالبان" في صراعها مع "تحالف الشمال" وحكومة الرئيس برهان الدين رباني في منتصف التسعينيات الماضية، إما كل شيء أو لا شيء. وعندما هددت إثيوبيا وتوعدت، كان رد "المحاكم"، هو أن زحفنا المبارك لن يتوقف إلا في أديس أبابا، فكانت النتيجة أن انهاروا في أيام أمام 4000 جندي إثيوبي فقط، وانتهى زحفهم إلى أحراش بلادهم مطاردين، أو في بحر العرب غرقى، لا يملكون إلا تأييد رجل "القاعدة" الثاني أيمن الظواهري الذي وعدهم بمدد من المتطوعين، وبيانات تأييد من علماء ومشايخ مرتاحين في أوطانهم، لا تغني ولا تسمن من جوع. بينما كان في ملك أيديهم المشاركة مع إخوانهم في الحكومة الانتقالية في البناء على ما حققوه من أمن واستقرار، وإنهاء حالة اللادولة والفوضى التي طال أمدها في بلادهم الغنية بخيراتها. وبات اختيارهم الآن هو أن يتحولوا إلى مقاومة وإرهاب يزيدان الصومال تفرقة ودماء، وسيزعمون حينها أنهم انتصروا إذ وقفوا في وجه المخططات الأميركية الاستعلائية ليحصلوا على هتافات وبيانات محترفي العرائض الحماسية. إنه لأمر غريب أن ينزع البعض لاتخاذ القرار الخطأ، رغم وجود عدة اختيارات أفضل أمامه، ما يحتاج إلى دراسة وتحليل في الأسباب المؤدية إلى ذلك، ولو تأمل أحدهم في قصص الناجحين عبر التاريخ ممن أقاموا ممالك آمنة مطمئنة، وحضارات مزدهرة، لوجدوا في سيرتهم عبراً كثيرة، ولحظات من الحكمة، والصبر، بل إن بعض قراراتهم لم تكن شعبية بين أنصارهم لحظة اتخاذها، ثم يبين الزمن حكمتها ورجاحة رأي صاحبها. لو تفرغ باحث ومؤرخ لدراسة أهم الأخطاء المصيرية في التاريخ لوجد أن أسبابها عدة، الكراهية والغضب كانا سبب خطأ حكومة المالكي مثلاً، وقصر النظر مع قلة الخبرة يضاف إليها التأثير السلبي لـ"الإخوة الخبراء" من أصحاب البيانات، كان سبب خطأ "المحاكم الإسلامية"، أما الأميركيون وأخطاؤهم، فهنا يتوقف الباحث متحيراً، فهم قوم لديهم مؤسسات دستورية، وخبراء، ومراكز بحث، وعدم تفرد بالقرار، ولكن ما بالهم يرتكبون الخطأ تلو الآخر في العراق؟ سؤال محير فتح الباب على تغليب سوء الظن، والقول إن ما يحصل ليس بأخطاء، وإنما تخطيط يدفع ثمنه العراق والعراقيون ونحن معهم، والله أعلم.