قبل شهر تقريباً، صدر تقرير "مجموعة دراسات العراق"، وسط أمواج بحر متلاطم من الطموحات غير الواقعية. لذلك فلم يكن من مناص أن يحبط كل الآمال التي علقت عليه فيما يتصل بإيجاد مخرج واضح من الأزمة. والذي بدا منه في نهاية المطاف، أنه لم يأتِ بعصا سحرية لحل كافة المعضلات التي غرقنا فيها هناك. لكن مع ذلك، فقد أنجز التقرير الكثير من المهام المتوقعة منه. في مقدمتها جمعه لخيرة العقول الأميركية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها الحزبية، وتبيانه بمنتهى الوضوح الفكري، لأهم العوامل المساهمة في استفحال الأزمة العراقية الماثلة. وبفعله ذاك، فقد تمكن التقرير من تقديم عون نظري كبير للحوار القومي الدائر حول سياساتنا في العراق، إضافة إلى توفيره قدراً كبيراً من الوضوح حول الخيارات المتاحة لنا هناك. وفوق ذلك، فقد أولى التقرير اهتماماً خاصاً للتأكيد على حيوية المصالح الأميركية، ليس في العراق وحده، وإنما على نطاق المنطقة الشرق أوسطية ككل. لكن وعلى رغم وصفه للوضع العراقي، بأنه "خطير ومتفاقم" فإنه لم يصب تحليله بالقدر المطلوب، على النتائج المحتملة لتحليلاته.وضمن ما جاء به التقرير في هذا الصدد، قوله بكل صراحة، إنه وفي حال عجز العراقيين أو عدم رغبتهم في الاضطلاع بالدور المرجو منهم، فإنه لا خيار أمامنا سوى الانسحاب من بلادهم، مع إلقاء اللوم عليهم. ولكن عند هذه النقطة بالذات يتوقف التقرير، ولا يمضي أكثر مما ذهب إليه. وهنا يجب القول إن الانسحاب من العراق، قبل أن يتمكن هذا الأخير من "حكم نفسه بنفسه والحفاظ على وحدته وكيانه.. وكذلك حماية ذاته"، كما جاء على لسان الرئيس بوش، سيكون بمثابة هزيمة استراتيجية ماحقة للمصالح الأميركية، يتوقع لها أن تخلف تداعياتها الكارثية على المنطقة بمجملها، بل وربما على ما وراءها أيضاً. ذلك أن شوكة أعدائنا ستقوى بما لا يقاس لأي وقت مضى، عقب انسحابنا المهزوم من العراق، بينما تضعف مواقف حلفائنا وأصدقائنا نتيجة إصابتهم بخيبة أمل كبيرة فينا. وما أن ننسحب، وهو مبلغ طموح إيران وأملها –بصفتها عدواً رئيسياً لنا- حتى تسارع طهران إلى تمديد وتوسيع نفوذها السياسي عبر الحركات الحليفة لها في المنطقة، مثل "حزب الله" وحركة "حماس"، لاسيما في كل من سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية والأردن. وفي المقابل فسيكون من حق حلفائنا العرب أن يشعروا بأننا تخلينا عنهم وتركناهم لمواجهة خطر التشدد والراديكالية الشيعية التي أطلقنا نحن عقالها بسياساتنا وأفعالنا. وفي كل ذلك ما يشكل تهديداً مباشراً وجدياً للحكومات الإقليمية الصديقة. وليس ذلك فحسب، بل إن هذا الخطر لن يقتصر على العراق والمنطقة الشرق أوسطية وحدهما، وإنما يطال مصادر الطاقة وغيرها من الموارد ذات الأهمية البالغة للاقتصاد العالمي في مجموعه. إلى ذلك فستقوى شوكة المتطرفين والإرهابيين في أنحاء مختلفة من أرجاء المعمورة. وبين هذا وذاك، فسيسود الاعتقاد العام عن تعثر الجواد الأميركي العملاق، وعن كون عزيمة الولايات المتحدة قد فلَّت، وسلبت إرادتها ومنعتها، ما يرسم عنها صورة عامة بصفتها دولة عاجزة لا يعول عليها كحليف أو صديق. وبذلك تكون الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن لعب دور صمام أمان أو حارس لقيم صنع السلام وتحقيق الاستقرار السياسي الأمني، لهذه المنطقة شديدة الاضطراب وبالغة الأهمية في ذات الوقت. ولكي نتفادى هذه العواقب والتداعيات الكارثية مجتمعة، فإن علينا كسب تأييد دول المنطقة نفسها لنا. ويقيناً فإنه من صميم مصلحة هذه الدول أن تمنحنا ذلك التأييد، مثلما فعلت من قبل في حرب الخليج الأولى عام 1991. ولكن من المؤسف بحق، أن هذه الدول نفسها، شعرت خلال السنوات الماضية الأخيرة، بخطورة تساوق مواقفها مع مواقف الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، فقد آثرت الابتعاد عنها نوعاً ما. بيد أنه في وسع بذل جهود مكثفة جديدة لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني من جانبنا، أن يحدث تغييرات هائلة في الديناميات السياسية للمنطقة الشرق أوسطية، وأن يبدل المواقف الاستراتيجية لقادتها الرئيسيين بالنتيجة. وفيما لو تمكنا من إحراز تقدم فعلي في هذا الطريق، فإن ذلك سيدفع بطهران بعيداً إلى خانة الدفاع، بدلاً من التحفز والهجوم الباديين عليها الآن. وطبعاً سيفقد كل من "حزب الله" وحركة "حماس"، الأرضية التي يستند عليها مبدأ التحالف الوثيق بينهما. وفي المقابل سيتم إطلاق أيدي الدول الصديقة والحليفة لنا مثل مصر والمملكة العربية السعودية وبلدان الخليج العربي، ويتاح لها كامل الحرية في المساهمة في تحقيق الاستقرار والأمن في العراق. ويتبع ذلك أن العراق نفسه، سينظر إليه حينها على أنه دولة كبيرة موحدة، يتعين وضعها على طريق صيانة الأمن الإقليمي للمنطقة ككل. وما أشد حرص القادة العرب اليوم على إيجاد حل لذلك النزاع الذي مزق أوصال منطقتهم، على امتداد الخمسين عاماً الماضية. وربما شاطرهم الحماس نفسه الآن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت. وما من سبيل لهذا الأخير، لأن يسعى لتحقيق الأمن المستدام الذي تنشده بلاده، إلا بحل هذا النزاع الأزلي، مرة واحدة وإلى الأبد مع جيرانه الفلسطينيين والعرب قاطبة. وإن كان لطرفي النزاع، أن يعودا مجدداً إلى طاولة المفاوضات والحوار السلمي المشترك، فما من دولة من دول العالم تستطيع ذلك، سوى الولايات المتحدة الأميركية. على أن استئناف العملية السلمية الإسرائيلية- الفلسطينية، لا يعني بأي حال من الأحوال كسر أنف إسرائيل وإرغامها على تقديم تنازلات لا تريدها، أو ليَّ ذراع الفلسطينيين وتمريغ أنوفهم في تراب الاستسلام والهزيمة المُذلة. أقول هذا وفي البال أن معظم جوانب وعناصر التسوية السلمية بين الجانبين، قد أقرت سلفاً في مفاوضات عام 2000، وكذلك في خريطة الطريق التي دشنتها الرباعية الدولية في عام 2002. والذي تبقى من هذه العملية الآن، هو استنفار واستقطاب الإرادة السياسية لكل من القادة العرب والإسرائيليين، تحت مظلة قيادة رئاسية أميركية عازمة ومصممة على بلورة كل تلك العناصر وحشدها معاً في وجهة إبرام اتفاق، أبدت كافة أطراف النزاع، موافقتها عليه مسبقاً من حيث المبدأ. أما فيما يتصل بتعاملنا مع سوريا وإيران، فإن من الأهمية بمكان ألا نخشى فتح قنوات حوار واتصال معهما. على أن ذلك يستدعي في الوقت ذاته، عدم التسرع من جانبنا، في التعامل معهما باعتبارهما طرفين من أطراف الحوار والتفاوض، أو كونهما شريكتين إقليميتين. ذلك أن لكل من طهران ودمشق، مصالحها الخاصة، وكذلك طموحاتها ومصادر نفوذها، ما يجعل من الصعب التعامل معهما وكأنهما لا تختلفان عن بقية الدول الإقليمية المجاورة. وفي الوقت الذي تبدأ فيه مفاوضات السلام الإسرائيلية- العربية، فإنه لابد لنا من تحديد معايير سياسية عامة في العراق، تهدف إلى تحفيز الاتجاهات والمساعي الرامية لعقد المصالحة الوطنية بين مختلف القوى والطوائف الدينية والسياسية المتصارعة هناك، وإلى توحيد البلاد ونظام الحكم السياسي فيها. يذكر هنا أن البعض منا اقترح حلولاً أخرى بديلة للنزاع الحالي، منها على سبيل المثال، الدعوة إلى حل بنسبة 80 في المئة، يقوم على إقصاء المسلمين السُّنة من العملية السياسية. وهناك من دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، شيعية وسُنية وكردية. ولكن الخطر في مثل هذه الحلول والبدائل، أنه ليس مفارقاً ومناقضاً لمنحى المصالحة وتحقيق الوحدة الوطنية المنشودة فحسب، وإنما لكونه يمهد الطريق لاندلاع المزيد من النزاعات الإقليمية في المنطقة. ولذلك فإنه لابد من استبعاد هذه الخيارات والبدائل المغامرة. وفي الوقت الذي نبذل فيه من الجهود ما يعيننا على الخروج من مأزقنا العراقي الراهن، فإن علينا أن نضع نصب أعيننا دائماً، أن هذا المأزق ليس من ذلك النوع الذي يمكن الهرب منه ونسيانه وراءنا، رغم التكلفة والخسائر الباهظة التي تكبدناها بسببه، مادياً وبشرياً. برينت سكوكروفت مستشار الأمن القومي السابق، للرئيسين جيرالد فورد وجورج بوش الأب ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"