تقترب أكثر فأكثر تلك اللحظة الحاسمة الخاصة بإيجاد مخرج ما للحروب الأميركية الدائرة الآن. فها هي المؤسسة الأميركية العملاقة، بكل مفكريها وأكاديمييها وعسكرييها وخبرائها في مجال الجاسوسية، تنهمك جميعها في البحث عن وسيلة ما لإحراز تقدم في جبهات الحرب المفتوحة مجتمعة. وما أن تطفو على السطح الإجابات اللازمة لكافة الأسئلة الضاغطة المثارة حالياً، حتى تكف عن أن تكون أسيرة بعد عسكري أحادي، لتشمل الطبيعة العالمية للحركة الإرهابية بأسرها، ومستقبل الإسلام، والمواجهة الطويلة الممتدة بينه وبين الغرب، وهي مواجهة تسبق وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر بوقت طويل. لقد اقتربت هذه اللحظة الحاسمة نظراً لتوقع بدء انعقاد كونجرس "ديمقراطي" جديد، اعتباراً من شهر يناير المقبل، وبسبب إجماع كافة استطلاعات الرأي العام التي أجريت مؤخراً على مطالبة الولايات المتحدة باتخاذ مسار جديد، وكذلك باتخاذ مسار قيادي عسكري جديد في إدارة حربي العراق وأفغانستان، خاصة مع التغيرات المتوقعة أصلاً، مع اقتراب موعد تقاعد الجنرال جون أبي زيد وعدد آخر من الجنرالات الحاليين. وفي الوقت ذاته يقترب موعد إجراء تغييرات قيادية كبيرة في الأمم المتحدة، بدنو موعد مغادرة الأمين العام الحالي كوفي عنان، بينما تتفاقم المواجهات الطائفية المسلحة في العراق، بين المسلمين الشيعة والسُّنة. وتشير هذه المواجهات إلى ما يتجاوز زعزعتها لاستقرار العراق وحده، وذلك بانتقال وانتشار تأثيراتها السالبة على منطقة الاحتياطي الاستراتيجي النفطي العالمي بأسرها. وبين هذا وذاك، تمضي إيران قدُماً نحو تطوير برامجها النووية، غير آبهة بالعقوبات والروادع التي يلوِّح بها المجتمع الدولي في مواجهتها. وكان الجنرال أبي زيد قد ذكر خلال الإفادات التي قدمها أمام الكونجرس الشهر الماضي، أن الحل الشامل للمأزق العراقي الراهن، يتطلب أكثر من مجرد الحل العسكري وحده. ذلك أنه لابد من تدويل الأزمة، ولابد من تناولها من زاوية دبلوماسية وجيواستراتيجية أيضاً. وكما قال الجنرال أبي زيد، فإنه ليس ممكناً معالجة هذه الأزمة بتسليط مجهر محدود على العاصمة بغداد أو كابول، واعتقاد المرء أن في وسعه حلها بمجرد إرسال مزيد من القوات إلى البلدين، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن جذور هذه الأزمة إنما تعود في الأساس إلى طبيعة وتعقيد المواجهة مع الإسلام الأصولي المتشدد في البلدين. بعبارة أخرى، فإننا نحن هنا لسنا إزاء مسألة نشر أو إعادة نشر قوات عسكرية فحسب، أو إزاء تأمين قواعد عسكرية بعينها في مختلف أنحاء العراق، وإنما قبل ذلك وبعده تتصل المسألة كلها بمراجعة أهدافنا واستراتيجيتنا التي دفعتنا لشن الحرب هناك، وعلى الإرهاب الدولي في مجموعه. وبين الأسئلة التي تخطر على الذهن هنا: هل في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية أم من واجبها، تجديد نيران نزاعات طائفية دينية بين المسلمين السُّنة والشيعة تعود أصولها وجذورها إلى الماضي البعيد، أم أنه من واجب المسلمين أنفسهم، والبالغ تعدادهم نحو مليار نسمة، التصدي لمشكلاتهم، تحت قيادة إسلامية، إضافة إلى قيادة الدول المسلمة، وزعماء دينيين من المسلمين الشيعة والسُّنة على حد سواء؟ كذلك يخطر على الذهن سؤال آخر حول ما إذا كان المرشحون، "الجمهوريون" و"الديمقراطيون"، لانتخابات عام 2008 الرئاسية سيقصرون خطابهم الانتخابي على ما إذا كانت أميركا سترسل أم لا ترسل مزيداً من القوات إلى مناطق الحروب والنزاع، خاصة في العراق وأفغانستان، أم أنهم سيعمدون إلى توسيع نظرتهم للأمر، ويسعون لإيجاد الخيوط والارتباط ما بين الحرب الدائرة على الإرهاب، وتأثيراتها على البيئة الأمنية في الجبهات الداخلية الغربية، في كل من أميركا وأوروبا معاً؟ بل ما إذا كان هؤلاء المرشحون سيتساءلون حول مدى وحدود ذلك التأثير، وأين يبدأ وأين ينتهي، ثم ما هي شروط وطبيعة العلاقة المستقبلية مع الإسلاميين والمسلمين قاطبة؟ ثم ألا ينبغي للجهاز الغربي بأكمله، بمكوناته الأكاديمية والفكرية والمعلوماتية والاستخباراتية، وبما له من مؤسسات ضخمة عملاقة، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والتحالفات العسكرية والأمنية مثل "الناتو" وغيرها، أن تعقد مؤتمرات خاصة بها، في محاولة للتوصل من جانبها لإجابات عن أكثر الأسئلة التي يثيرها الإرهاب إلحاحاً، وبشأن كيفية التصدي لخطر التشدد والإسلام الأصولي، لاسيما تنظيم "القاعدة"، ولمحاولة وضع أسس للتعامل مع الأقطار الإسلامية، بكل ما لها من كثافة سكانية هائلة، هي التي تغذي صفوف المتطرفين وتفرِّخهم، بل وتطلقهم من عقالهم، بما في ذلك، ما يشنونه على الغرب من حملات عبر شبكة الإنترنت. الحقيقة أنه لا سبيل لإيجاد حل لشبح الحرب الأهلية في لبنان، ولا للنزاعات الدائرة بين شتى الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، ولا بين "طالبان" وغيرها من التيارات والفصائل الأخرى في أفغانستان، أو بين الانفصاليين الشيشان وغيرهم في روسيا، بمعزل عن القوى والولاءات التي تقف خلف هذه الفصائل، سواء كانت الولاءات القبلية في باكستان، أم الارتباطات القبلية بين كل من العراق وجواره العربي السُّني، أم الجاليات المسلمة المهاجرة في أوروبا، أم في تلك الأصقاع المنفلتة عن أي نظام حكم في أفريقيا، حيث يتم تفريخ المتطرفين بالملايين، ويجري إعدادهم وتأهيلهم لشن العمليات الدموية والانتحارية باسم الإسلام والجهاد. ولنذكر هنا أن إفادات الجنرال جون أبي زيد أمام الكونجرس، تضمنت حديثه عن "الحرب الطويلة" الممتدة التي لا تقف حدودها عند خوض معارك جزئية صغيرة متفرفة في العراق أو الصومال أو أفغانستان. ويقيناً فإن حرباً كهذه، تتطلب مساهمة وتخطيط أفضل العقول الغربية، من شاكلة تلك العقول التي خططت للحرب الباردة، والتي امتدت من عام 1945 وحتى إلحاق الهزيمة الحاسمة بالمعسكر الشيوعي في عام 1990. وغني عن القول إن للغرب من المؤهلات الفكرية والاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية، والتفوق التكنولوجي، ما يمكنه من الفوز فيها على قوى التطرف والظلام.