أوجه الشبه تبعث على الذهول: حاكمان مستبدان لا يرحمان، ضحَّيا بحقوق الإنسان لأغراض سياسية. رجلان لهما أتباعٌ يُجلانِهما ويناصرانهما، ومنفيون يكرهونهما ويمقتونهما. زعيمان يشكلان نموذجين للرجل القوي في أميركا اللاتينية، أحدهما يرتدي نظارات داكنة، أما الثاني فلا يغيب السيجار عن فمه إلا فيما ندر. والواقع أنه لا يوجد زعيمان أثرا على المشهد السياسي لأميركا اللاتينية خلال الخمسين عاماً الماضية أكثر من الزعيمين الكوبي فيديل كاسترو والشيلي الراحل الجنرال "أوجوستو بينوشيه". لقد حكم الرجلان من الطرفين المتقابلين للطيف السياسي -كاسترو في "اليسار" المتطرف، وبينوشيه في "اليمين" المتعصب- نظاميهما اللذين لا يتشابهان سوى من حيث قساوتهما وطابعهما المستبد. اليوم وبعد أن توفي "بينوشيه" وفي وقت يقترب فيه "كاسترو" من نهايته، بات النموذج السياسي الذي انتهجاه نموذجاً للسياسيين القمعيين، وهو نموذج بات مرفوضاً في معظم بلدان أميركا اللاتينية لصالح حكومات أكثر ديمقراطية. غير أن تَركتيْ كاسترو و"بينوشيه" ستستمران بعد رحيلهما؛ ورغم أنهما كانا حاكمين مستبدين، فإنهما سيستمران بعد وفاتهما في تحديد معالم أميركا اللاتينية. ذلك أن كلا الرجلين وسما واقع المنطقة وتركا بصماتهما على الأجندة السياسية والاجتماعية التي ستؤثر على أميركا اللاتينية لأجيال قادمة؛ حيث انتبه "كاسترو" لمظاهر الظلم الاجتماعي التي تتخبط فيها بلاده؛ في حين تبنى "بينوشيه" اقتصاد السوق وقوته على دفع الاقتصاد. واليوم تعمل الحكومات الجديدة في المنطقة على الاستفادة من كلا التجربتين في سعيهما إلى تحسين مستقبل مواطنيها السياسي والاقتصادي. مما لا شك فيه أن سجلات الرجلين بخصوص حقوق الإنسان لا تبعث على الافتخار. فقد أشرف "كاسترو"، الذي يبلغ اليوم ثمانين عاماً، منذ الثورة الكوبية عام 1959، على انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان مثل الآلاف من أحكام الإعدام، ولاسيما خلال السنوات الأولى التي تلت وصوله إلى السلطة- وإنْ كان القمع والمراقبة الشديدة اللذين تمارسهما الحكومة ما يزالان مستمرين إلى اليوم. ولطالما برر "كاسترو" الاستبداد باعتباره ضروريا لخلق كوبا شيوعية تشدد على توفير التعليم والخدمات الصحية المجانية، إضافة إلى حماية الجزيرة من التهديد الدائم لمحاولات تغيير النظام التي تقف وراءها واشنطن. ونظرا للصورة التي كوَّنها عن نفسه باعتباره المدافع عن المستضعفين والخصم العنيد الذي يقف في وجه الولايات المتحدة، يظل كاسترو بطلاً في أعين الكثيرين، ليس في أميركا اللاتينية فحسب، وإنما عبر العالم بصفة عامة. بالمقابل، لا يتوفر "بينوشيه"، الذي توفي قبل بضعة أيام، على معجبين كثيرين خارج شيلي، بل إن عددهم حتى داخل شيلي تراجع كثيراً؛ حيث قضى الرجل على التقليد الديمقراطي في البلاد عبر انقلاب عسكري في 1973، وحكم البلاد لفترة 17 عاماً قبل أن يغادر السلطة عام 1990. ونظرا لعمليات الخطف والتعذيب وقتل آلاف المعارضين باسم تخليص البلاد من التأثير الماركسي وإحلال النظام محل الفوضى، صار نظامُه مقروناً بحالات الاختفاء الكثيرة التي عرفتها البلاد. لقد وضع "كاسترو" أصبعه على الداء وسبب الاستياء، حيث حارب الظلم الاجتماعي والتفاوت الذي يستشري في بلاده. وقد جاءت الانتخابات الأخيرة في بوليفيا والبرازيل وكوستاريكا والإيكوادور والمكسيك ونيكاراجوا والبيرو لتبرز الأهمية والطابع المستعجل للأجندة الاجتماعية. وهكذا، فمن المرجح أن تزيد الحكومات المقبلة، على اختلاف إيديولوجياتها، تشديدها خلال العام المقبل على البرامج الاجتماعية التي تنتبه لحالة الإحباط الكبيرة التي تشعر بها شعوب المنطقة وتوقعاتها المتزايدة. وبالتالي، فمن المتوقع أن تطغى على خطابات الزعماء الجدد الدعوةُ إلى المزيد من المساواة، لتبدو بذلك شبيهةً بخطابات كاسترو. عملياً، من المرجح أن يُنفذ العديد من حكومات أميركا اللاتينية بعضاً من سياسات "بينوشيه" الاقتصادية، معتمدة في المقام الأول على اقتصاد السوق في تحقيق أهدافها الاجتماعية، بما في ذلك الزعيم الفنزويلي هوجو شافيز الذي يعول على سوق النفط لتمويل برامجه الاجتماعية. ففي السبعينيات، تزعم نظام "بينوشيه"، الذي كان متأثراً بعالم الاقتصاد الراحل "ميلتون فريدمان"، إصلاحات السوق في أميركا اللاتينية، ومن ذلك خصخصة المقاولات المملوكة من قبل الدولة وتحرير التجارة. وبالرغم من مرور البلاد بفترة صعبة في أوائل الثمانينيات، غير أن توجيهات "بينوشيه" الاقتصادية وضعت شيلي في النهاية على طريق جعلت منه البلد الأميركي اللاتيني صاحب أفضل أداء اقتصادي خلال العقود الأخيرة. ورغم النتائج الهزيلة لجهود إصلاح السوق في أماكن أخرى والفساد الذي تسببت فيه جهود الخصخصة، فإن استطلاعات الرأي تُظهر أن معظم مواطني أميركا اللاتينية ما يزالون يفضلون هذه الإصلاحات. وهكذا، باتت حكومة الائتلاف الحالية في الشيلي، تجسد اليوم هذا التيار الجديد في الحياة السياسية بأميركا اللاتينية؛ وسجل الاقتصاد خلال السنوات السبع عشرة من الحكم الديمقراطي أداء أفضل من ذاك المسجل في عهد "بينوشيه". كما تراجعت مستويات الفقر من أكثر من 40 في المئة في التسعينيات إلى أقل من 18 في المئة في 2005. الجمهور في أميركا اللاتينية اليوم يرغب في النمو الذي يحركه السوق، النمو الذي يستفيد من تجربة "بينوشيه" ويضع نصب عينيه العدالة الاجتماعية المستوحاة من سياسة كاسترو– ولكن في سياق ديمقراطي بعيداً عن الإرهاب والحكم السلطوي الذي طبع النظامين. باختصار، إنه يريد الأمور الإيجابية في النظامين. مايكل شيفتر نائب الرئيس المكلف بالشؤون السياسية بمؤسسة "الحوار الأميركي-الأميركي" ومتخصص في قضايا أميركا اللاتينية بجامعة "جورج تاون" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"