دعا الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، نظيره السُّني البارز الشيخ حارث الضاري رئيس "هيئة علماء المسلمين" إلى أن يصدر فتوى واضحة تُحرم قتل الشيعة، فرد عليه الأخير قائلاً: "وقعنا منذ الأشهر الأولى للاحتلال ميثاق شرف يحرم دم العراقي مسلماً كان أم غير مسلم، وتبرأنا من كل من يتعرض لأي عراقي أو غير عراقي مستأمن في العراق". ولعل "الصدر" يرد على "الضاري" فيطالبه بفتوى صريحة وواضحة تحرم استهداف الشيعة تحديداً وبالاسم، وليس بيان عام كما أجاب الشيخ، بل يزيد على ذلك فيطالبه بتحريم عمليات التفجير العشوائية التي تستهدف أحياء الشيعة، والعمليات الانتحارية من دون تبعيض أو استثناء. وسيكون طلبه هذا مشروعاً ومنطقياً، ولكن من حق "الضاري" أيضاً أن يرد على "الصدر" ويطالبه بما هو أكثر من الفتوى، بأن يأمر أتباعه والمنتسبين إلى جيشه، بالكف عن جرائم قتل وتعذيب وخطف مواطنيه السُّنة عموماً، من دون تبعيض أو تخصيص كالقول إن "جيش المهدي" يستهدف النواصِب والتكفيريين و"البعثيين" فقط. فالمحصلة النهائية أن شيعة يقتلون سُنة وسُنة يقتلون شيعة، وعراقاً يمزق، وكراهية تؤسس، وفرقة تشيع، بينما يتكسب هؤلاء الزعماء السياسيون بدماء شعبهم الذي عاش قروناً في سلام، وشكل معاً حضارة وأدباً وغناء وفناً وشعراً وبلداً مميزاً اسمه العراق. أصدر الزعيمان التصريحات، وتبادلا اللوم، بينما استمر القتلة في عملهم القبيح، وكل يدعي أنه أقرب إلى الله، وأحب إلى رسوله عليه الصلاة والسلام، فلمَ لا يتوقفان هما وغيرهما من الزعماء السياسيين العراقيين، الباحثين عن جاه ومنصب، والمتسربلين في ثياب الدين عن هذا الحوار عن بعد، والذي هو أشبه ما يكون بتسجيل مواقف، وتبرير للأخطاء فيجلسون معاً، في العراق أو خارجه ويطرحون بكل صراحة مطالبهم على بعضهم بعضا؟ بالتأكيد هناك مطالب دنيوية لدى كل طرف، وما دماء الشيعة والسُّنة المستباحة إلا مجرد أدوات سياسية، بل إن مسؤولية زعماء الشيعة هنا أكبر، فهم أصحاب السلطة، والطائفة الأكبر، ولزعمائهم الكلمة العليا على مليشياتهم التي تمارس القتل في حق السُّنة علناً، في وضح النهار، وفي لباس ودوريات رسمية. بل بات موثقاً أن القتل والتعذيب بجريان في وزارات ودوائر رسمية، وبالتالي يستطيعون أن يصدروا أمراً أو يجروا تحقيقاً. أما حارث الضاري وغيره من زعماء السُّنة، فلقد بات قرارهم مختطفاً. أقصى ما يستطيعون فعله هو إصدار فتوى أو بيان يشجب أعمال القتل يصوغونها بعبارات عامة، ذلك أنهم يخشون من غضب "القاعدة"، مثلما يخشون انتقام أجهزة السلطة أو القريبة منها، فباتوا مسحوقين بين حجري رحى، وكل هذه التصريحات البطولية المنددة والمتوعدة والمطالبة برحيل الاحتلال مجرد تجميل لموقف ضعيف. وقد يأتي يوم قريب يعترفون فيه بأن الاحتلال هو الحماية الوحيدة التي ستبقى لهم في وجه ظلم "القاعدة" وبطش السلطة. ولعله من المفيد أن يتأملوا في الصيحات المتصاعدة المطالبة برحيل القوات الأميركية من قبل مقتدى الصدر تحديداً بعد أن أصبح الرجل الأقوى بين شيعة العراق، ومن قبل حلفائه ومآزريه. إنها ليست مواقف إعلامية شعبوية استهلاكية، مثلما تفعلون، إنه تدبير وتخطيط، ولم يكن التدبير والتخطيط يوماً، عيباً يلام عليه صاحبه. لقد تعقد الوضع في العراق، بشكل بات يخشى الجميع الاقتراب منه، ومن وقع فيه يريد الخروج منه، إلا المستفيد المنتصر، وهؤلاء اثنان: المتطرفون الشيعة ونظرائهم من السُّنة. والخاسر الأكبر لو اتسعت رقعة الحرب الأهلية الجارية هو العراق والعراقيون جميعاً، وليس السُّنة فقط كما صرح زعيم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" عبدالعزيز الحكيم مؤخراً. ومن هنا نفهم إصرار المملكة العربية السعودية على رفض الانجرار إلى المستنقع الطائفي في العراق، بأن تكون لسُنة العراق ما إيران لشيعته، فهي كما صرح سمو وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أكثر من مرة، منحازة لعراق عربي واحد، لا ترى فرقاً بين سُنته وشيعته. ولو رضت بغير ذلك تكون قد قبلت ضمناً بتقسيم العراق. طرفان فقط يجران العراق نحو الحرب الأهلية، أولهما "القاعدة"، التي لم تخفِ غرضها هذا وأعلنته في خطة محكمة صاغها ونفذها مؤسسها في العراق "أبومصعب الزرقاوي" قبل مقتله. وحريٌّ بنا أن نعترف بأنه نجح في إطلاق شرارتها الأولى، ولا يزال رفاقه على دربه سائرين في توسيع رقعتها وأملهم أن تشملنا جميعاً بشرِّها، فهم في رتعة الفوضى ينشطون، ومن بث الكراهية والحقد ينتشرون، ويجندون الأحداث والجهال الغاضبين، وقد تبعهم في ذلك الطائفيون الشيعة مستغلين للفرصة أو منفذين لدور متفق عليه مسبقاً، دون أن يعني ذلك توافقاً وتنسيقاً بينهم و"القاعدة". وبالتالي لا يمكن الخروج من فتنة العراق، وكبت لهيبها حتى لا يستعر، إلا بشراكة مسؤولة بين دول المنطقة والولايات المتحدة، بالضغط على الحكومة العراقية المنتخبة، بحديث صريح ومعلومات مثبتة، ومن ثم دعمها كي تتحمل مسؤوليتها في لجم هؤلاء ومليشياتهم السرية منها والعلنية، بل حتى القضاء عليهم وتقديم أركانهم للمحاكمة، بحديث صريح. وفي المقابل تطور خطة لدعم القوى السُّنية المعتبرة وزعماء العشائر للقضاء على "القاعدة"، وتخليصهم من قبضتها، كي يستطيعوا أن يمثلوا السُّنة ومصالحهم الحقيقية. والعمل هنا لن يكون أمنياً فقط، بل إن للعلماء الواعين دوراً، وذلك برفع أي غطاء وتبرير يوفر لها عن جهل أو عن معرفة، فيجب أن يقتنعوا بأن "القاعدة" لا تخدم بحال من الأحوال مصلحة أهل السُّنة والجماعة في العراق، بل تصب مباشرة في خدمة الساعين إلى تقسيم العراق، وأحسب أنه ما من عالم مسلم يريد أمراً كهذا. لقد حان الوقت لعمل حاسم في العراق، فليس بعد السيئ إلا الأسوأ.