هو جينتاو
جينتاو: هندسة الإصلاح وإعادة ترتيب التحديات
أي استقطاب ذلك الذي يتخلل علاقات الكبار في شرق آسيا هذه الأيام؟ لقد وصل الرئيس الصيني "هو جينتاو"، ظهر أول أمس الخميس، إلى العاصمة الباكستانية إسلام أباد، في زيارة تستمر ثلاثة أيام، تتركز محادثات الجانبين خلالها على تنمية العلاقات التجارية، والتعاون في المجال النووي، وعلى مناقشة اتفاق للتبادل الحر... بينهما. إنها الزيارة الأولى لرئيس صيني لباكستان منذ عشر سنوات، لكن لا جديد في موضوعها؛ باعتبار علاقات التحالف الثنائي القائمة بين إسلام أباد وبكين منذ 55 عاماً. أما الجديد حقاً فهو أن جينتاو حلّ بالعاصمة الباكستانية قادماً من الهند، حيث أدى هناك زيارة رسمية دامت أربعة أيام، عرض خلالها على مضيفيه خطة لتعزيز صداقة بكين ونيودلهي، ولزيادة الثقة المتبادلة وتوسيع التعاون بينهما... ورسم مسار للمستقبل. إن الدخول مباشرة من زيارة رسمية للهند إلى زيارة رسمية أخرى لباكستان، لم يكن من بديهيات السياسة الإقليمية في شرق آسيا؛ فالتوتر بين الدولتين يمتد 60 عاماً إلى الوراء. وبالقدر نفسه فإن وجود زعيم صيني في نيودلهي ليس أمراً ضمن أفق الانتظار المتولد عن علاقة البلدين، واللذين دخلا في نزاع ترابي جرهما إلى حرب عام 1962، ومن ثم لم تتمكنا من رسم حدودهما في منطقة جبال الهيمالايا إلى اليوم. تحالفت الهند مع الاتحاد السوفييتي، فردَّت باكستان بالتحالف مع الصين، لكن هوة الخلاف بين الهند والصين تضاعفت بسبب دور الأخيرة في بناء البرنامج النووي الباكستاني. أما بكين فتخوفت باستمرار من الطموحات النووية لجيرانها الهنود، وهي التخوفات التي ازدادت بعد الاتفاق النووي المبرم بين نيودلهي وواشنطن هذا العام... فهل إذن يمكن لجينتاو أن يستوعب تناقضات بهذا الحجم ويتعايش مع مشهد كهذا؟
يمثل جينتاو الجيل الرابع من القادة السياسيين في الصين الشعبية، وقد أمضى حياته السياسية كلها في الحزب الشيوعي الصيني منذ انضم إلى قواعده عام 1964، حين كان لا يزال طالباً في الجامعة. وإن كانت بعض جوانب حياته الشخصية مجهولة، فالمؤكد أنه ولد عام 1942 لعائلة تجارية في قرية جيسكي في إقليم آنهوي، على بعد 300 كلم إلى الغرب من شانغهاي. التحق بجامعة تسينغهاو في بكين بين عامي 1959 و1964، حيث التقى زوجته ليو يو غينكغ، والتي أنجب منها ابناً وابنة، وذلك بعد تخرجه مهندساً في الطاقة المائية وحيث أصبح معيداً في الجامعة نفسها. لكن جينتاو تنقل للإقامة عدة مرات بين العاصمة بكين وأقاليم الغرب الفقيرة؛ فإبان "الثورة الثقافية" عام 1966، نُقل إلى إقليم "جانسي" ليعمل مهندساً في بناء سدود، ثم أصبح رئيس اللجنة المحلية للهندسة في الإقليم.
ترقى جينتاو في سلم الرتب الحزبية، خاصة بعد أن نال إعجاب سكرتير اللجنة الإقليمية في "جانسي"، إذ نُقلَ مديراً للمدرسة المركزية للحزب الشيوعي في بكين، بين عامي 1980 و1981. ثم لم يلبث أن اختير خلال المؤتمر العاشر للحزب، عام 1982، نائب عضو في اللجنة المركزية للحزب، والسكرتير الوطني لرابطة الشباب الشيوعي. وأصبح جينتاو أصغر زعيم إقليمي سناً في الصين، حين تولى قيادة الحزب في إقليم التيبت ذي الحكم الذاتي عام 1988، فأداره بقبضة حديدية أوصلت إلى تحقيق التهدئة هناك، فتمت مكافأته بعضوية المكتب السياسي للحزب عام 1992. وحينئذ قرر الرئيس الأعلى دينغ شياو بينغ اختياره لخلافة زيانغ زيمين. وفي مسيرته نحو القمة، عُين جينتاو عام 1993 رئيساً للمدرسة المركزية للحزب، وفي العام نفسه عضواً في أمانة اللجنة المركزية للحزب، ثم تم اختياره عام 1998 عضواً في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، ونائباً للرئيس زيمين في رئاسة الدولة، ثم نائباً له في اللجنة المركزية العسكرية عام 1999، ونائباً له في أمانة الحزب عام 2001. وتتويجاً لخطوات صعوده، انتخب جينتاو في أكتوبر 2002 أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني خلفاً لزيمين، ليصبح الأمين العام الأصغر سناً في تاريخ الحزب منذ تأسيسه مطلع عشرينيات القرن الماضي. وفي مارس 2003 انتخب كتاسع رئيس لجمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها عام 1949، في ولاية مدتها خمس سنوات. وفي يوليو 2004، تسلم جينتاو قيادة الجيش خلفاً لزيمين الذي استقال من آخر مناصبه على رأس اللجنة العسكرية، منهياً بذلك عملية نقل السلطة إلى جينتاو، في إجراء مثل نقطة انعطاف بارزة في تاريخ الصين المعاصر.
ويعتبر جينتاو قائداً إصلاحياً وصاحب رؤية واقعية، وكثيراً ما أعرب عن رغبته في تكييف الحزب الشيوعي الصيني مع التغيرات الجارية، وفي إقامة نظام حكم رشيد وشفاف وخاضع للمساءلة، وقد تعهد بالسير في طريق الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها سلفه زيمين، خاصة أن مناصبه، على رأس الدولة والحزب والجيش، تتيح فرصة كبرى لتنفيذ برنامجه الإصلاحي.
لقد ارتبط صعود جينتاو بإدخال إصلاحات جديدة في الحزب، والذي وافق خلال مؤتمره في نوفمبر 2002 على تعديل ميثاقه كي يتمكن الرأسماليون من الانضمام إلى جميع هيئاته.
وبينما استطاع زيمين أن يرقى بالاقتصاد الصيني ليصبح الثالث عالمياً، وأن يرفع متوسط دخل الفرد إلى 4300 دولار في السنة، وأن يحقق زيادة في الدخل القومي بمعدل 7.3% سنوياً، وطرح نظريته الثلاثية حول إصلاح الحزب والدولة والمجتمع... فإن جينتاو يواجه تحديات عديدة؛ مثل الاختلالات الاجتماعية بين الطبقات المختلفة، وتزايد البطالة وانتشار الفقر، وتدني مستوى دخول المزارعين، ومعضلة التلوث البيئي، والحاجة المتزايدة إلى المواد الأولية، وتدهور النظام المصرفي، والتفاوت في التنمية بين أقاليم الصين، وفي دخول المواطنين، ومشكلة الديمقراطية التي تتفاقم مع زيادة الانفتاح الخارجي... أي مجمل المشكلات التي لم يفلح زيمين في حلها خلال 10 سنوات من حكمه.
ومع ذلك فـ"القفزة الهوائية" العريضة بين الهند وباكستان، ربما لم تكن لتخطر على بال الزعيم المخضرم زيمين... فعملاقا آسيا، وبينهما باكستان... تملي عليهما "مظالم" نظام التجارة العالمية، أن يتجاوزا تناقضاتهما السابقة، لصالح مطالب مشتركة إزاء ذلك النظام؛ لاسيما أن التجارة هي أهم اعتبار "سياسي" لكل من نيودلهي وبكين، رغم أن ما تتبادلانه منها محدود للغاية... وذلك هو التناقض الكبير الذي تشكل إعادة بنائه تحدياً للمهندس جينتاو!
محمد ولد المنى