في صيف عام 1953، كانت قرية "قلقيلية" الفلسطينية تحت الإدارة الأردنية، حرةً أبيةً، لم يهضم أهلها أن دولة أجنبية تُدعى إسرائيل قامت بجوارهم، فاغتصب يهود غرباء حقولهم التي توارثوها من آباء وأجداد، فضموها إلى دولتهم التي أُسست بالعنف والقوة قبل 5 أعوام من التاريخ المذكور، فتسلح بعض منهم، وأخذوا يمارسون حقهم في مقاومة الاحتلال، فيتسللون عبر الخط الأخضر ويشتبكون مع المحتلين الغرباء. ولكن كانت المسألة حياة أو موتاً بالنسبة للإسرائيليين، فهم لم يأتوا إلى هذه الأرض ضيوفاً، وإنما اغتصبوها عنوةً، مدركين أنهم لن يعيشوا فيها إلا بالعنف، بل بأقصى درجاته، فاختطاف وطن من أهله فعلٌ متطرف، وتوقعوا أن يكون رد أصحاب الحق عنيفاً، ألا يقبلوا بالأمر الواقع، وبالتالي لابد أن يردوا بشكل متطرف على كل أشكال المقاومة والرفض، ويضمنوا ألا يخسروا أي معركة مستقبلاً، والحق أنهم أبلوا بلاء حسناً، بينما تعثرت خطى الفلسطينيين والعرب، وظلت هذه السياسة الإسرائيلية الحازمة قائمة إلى يومنا هذا. في أكتوبر من العام نفسه، تسللت إلى "قلقيلية" مفرزة من الجيش الإسرائيلي تسندها طائرات ومدفعية، فدكت القرية، واشتبكت مع سكانها الذين استبسلوا في الدفاع، ولكن الإسرائيليين كانوا أفضل تنظيماً وعتاداً، فلم يتركوا القرية إلا وقد دمروا عدداً من مبانيها ومركز الشرطة فيها، وقتلوا قرابة 70 من سكانها. هذه القصة تكررت بعد ذلك في أكثر من قرية فلسطينية، كلما مارس أهلها حقهم في السعي لتحرير أرضهم، وعبروا عن رفضهم لهذه السابقة في التاريخ المعاصر، عندما يصادر غرباء وطناً ويطردون سكانه، فصاغت هذه المواجهات العلاقة المتأزمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولا تزال. بعد أكثر من نصف قرن، وتحديداً الأسبوع الماضي، جلس سائق تاكسي فلسطيني، غاضب على رصيف مُتربٍ ببلدة بيت حانون في قطاع غزة، يشهد خروج جنازة عقب أخرى، في دفعة جديدة من الشهداء الفلسطينيين، نساءً وأطفالاً هذه المرة، قتلهم الإسرائيليون. نفس المشهد المتكرر منذ عقود. قال الفلسطيني الغاضب لمراسل أجنبي "إنني أكره جورج بوش، أكره الإسرائيليين كلهم، أكره الأوروبيين، أكره العرب". معكَ حق يا أخي، فكل من ذكرت إما هو قاتلك، أو شريك في قتلك، أو ساكت يتفرج، أو عاجز عن أن ينصرك. أستطيع يا أخي أن أكتب مقالاً نارياً، أهاجم بعنف منْ قتل نساءك وأطفالك وأهلك، هو وشركاؤه أيضاً، كما أشجب الصامتين المنافقين، وألوم العرب العاجزين، ثم أنصرف إلى حياتي اليومية، مثلما يفعل عشرات غيري من الكُتاب العرب من بيروت إلى الرباط. وبعد أن أدغدغ مشاعرك أسلمك إلى وهم كاذب بأن هناك إخوة لك يشاركونك الآلام والمحن، ولكن لن تفيدك مقالتي ولا مقالات غيري شيئاً. لن تمنع عنك رصاصة إسرائيلية، أو قذيفة دبابة، يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بكل صفاقة، أنها نتجت عن "خطأ تقني" لتبرير قصف منازل في البلدة في فجر الأربعاء الماضي، فقتل 18 فلسطينياً بينهم نساء وأطفال. ستستمر إسرائيل في عنفها القاسي عليكم، كلما مارستم حقكم في المقاومة، فهي قامت بالسلاح والعنف، وتعيش بهما، ولا تستطيع أن تجد حواراً غيره مع الفلسطيني إلا أن يستسلم ويخنع للاحتلال أو أن يرحل. ولكنك لن ترحل عن أرضك وأرض أجدادك، ولن تستسلم، ولن تخنع للاحتلال، ولكن في الوقت نفسه لا يجوز أن تمضي هكذا في نضالك وجهادك من دون أمل، ومن دون إنجاز. خمسون عاماً وأكثر، والفلسطيني لم يدرك الحقيقة، كلما قامت إسرائيل بجريمة، ينتصب المسؤول الفلسطيني أمام كاميرا التلفزيون: "أهيب بالأمة العربية والضمير الإنساني أن يتدخل..."، إلى آخر تلك العبارات المتكررة. الأمة العربية مشغولة يا سيدي بهمومها، والضمير الإنساني مات، قتله الإعلام الذي يحوِّر الحقائق. لقد باع الإسرائيليون العالم نظرية مفادها "أن ردنا العنيف هو نتيجة طبيعية لاستئصال الإرهاب، ونحن لن نستهدف المدنيين أصلاً وإنما يقعون ضحايا بالخطأ، أما عدونا فهو يستهدف المدنيين بصواريخه وعملياته الانتحارية"... نظرية سخيفة، كاذبة، وعذر واهٍ، ولكن العالم اشترى هذه النظرية. هل تصدق يا سيدي أن مجزرة "بيت حانون" الأخيرة لم يأتِ خبرها بالمرة على التلفزيونات الأميركية، بل إنه كان لمحطة أميركية رئيسية فريق عمل، ينقل تقارير حية من القدس حتى الأسبوع الماضي، ولم يكلف نفسه بنقل خبر واحد من "بيت حانون"، وإنما انشغل بمواضيع "جذابة" إعلامياً مثل الحياة بعد الموت في الأديان السماوية. لا تلمْه يا سيدي، فالإعلام تجارة، ومذبحة أخري في بيت حانون يمكن أن "تعكنن" مزاج الأميركي في الصباح. هل لاحظت يا سيدي أنك لمتَ العالم كله، ولم تلمْ نفسك ومن حولك. آسفٌ أعلم أنك تمر بظرف صعب، والدماء لم تجف بعد، ولكن الدماء لن تتوقف في "بيت حانون"، أو أي بلدة أو مدينة فلسطينية، وليس بالضروري أن هناك "خطأ تقنياً" إسرائيلياً آخر، فالإسرائيليون يقتلون ويمضون في طريقهم. الفلسطيني لا يلوم الفلسطيني، فعندما يفعل ذلك يتهم بتفريق الصف، والتخذيل عن مواجهة العدو المشترك، وعندما يتلاوم الفلسطينيون، فإنهم يفعلون ذلك متخندقين حزبياً كما هو حاصل بين "حماس" و"فتح" منذ أكثر من عام. بعد أكثر من 50 عاماً، ألم يحنْ الوقت لأن يسأل الفلسطيني عما إذا كان أسلوبه في إدارة الصراع خاطئاً؟ سائق التاكسي الفلسطيني الذي لامَ العالم كله، لم يجرؤ على لوم مطلقي الصواريخ العبثية، فيقول لهم: "صواريخكم أصبحت رخصة إسرائيل للقتل، فتوقفوا عن ذلك وابحثوا عن وسيلة أخرى للنضال". بالطبع لن يستطيع قول ذلك، فهو يخشى "الغوغاء" الذين باتوا يتحكمون في الشارع الغزاوي،. بل إن الرئيس الفلسطيني نفسه محمود عباس، قد ناله ما ناله عندما قال الحقيقة التي يعرفها ويعرفها كل مسؤول فلسطيني فصرح قائلاً: "إن الصواريخ عبثية بلا فائدة ولا نتيجة تعطي الإسرائيليين ذريعة ويجب أن تتوقف"، فطالبته حركة "حماس" بالاعتذار لأطفال ونساء بيت حانون، واتهم بأنه يقدم مبرراً لجرائم الاحتلال، وكأن الاحتلال احتاج إلى تبرير من زعيم فلسطيني لممارسة جرائمه من قلقيلية 53 إلى بيت حانون 2006. الفلسطيني وحده هو الذي يقرر وسيلته الأفضل للإدارة الصراع، ولكنها بالتأكيد ليست العمليات الفدائية، ولا "الانتحارية"، ولا الصواريخ ولا تكديس السلاح المتواضع المهرب. فكل ما سبق هو "عنف"، والعنف هو السلاح الذي تجيد إسرائيل استخدامه وببراعة ومن دون حياء، وبكل بطش من دون أن يكون هناك من يحاسبها أو يمنعها، ووجدت فيه "رخصتها للقتل"، فلم لا ينزع الفلسطيني من الإسرائيلي أقوى أسلحته الذي عاش به وانتصر وأسس به دولته، ألا وهو "العنف". فلو تخلى الفلسطيني عنه سيصبح "العنف" عبئاً أخلاقياً على إسرائيل يُضاف إلى عبء الاحتلال. لقد كان محمود عباس شجاعاً عندما دعا شعبه صراحة للتخلي عن العنف، لم يكن ضعيفاً، وإنما كان حكيماً وصاحب رؤية مستقبلية.