عندما بدأت الحرب الباردة، كان الأميركيون والحكومات الأوروبية الغربية يتطلعون إلى حدوث تمرد شعبي ضد الشيوعية، بيد أن ما حدث عندما وقع ذلك التمرد بالفعل في المجر منذ خمسين عاماً هو أن الأميركيين والأوروبيين لم يدروا كيف يتصرفون حياله. وكان الحزب الشيوعي المجري قد خسر الانتخابات الحرة التي عقدت عام 1945، ولكنه استطاع مع ذلك العودة إلى السلطة بعد عامين فقط بفضل استمرار وجود القوات السوفييتية في ذلك البلد. وتمكن الحزب من تحقيق ذلك من خلال تكتيك اعتمد على التذرع بكافة الذرائع السياسية والأمنية في سبيل استبعاد الأغلبية غير الشيوعية بالتدريج ثم استيعابها في ائتلاف أطلق عليه اسم "الجبهة الشعبية". وأطلق" ماتياس راكوسي" سكرتير الحزب الشيوعي في ذلك الوقت على تلك التكتيكات اسم" تكتيكات السلامي" (السلامي هو نوع من السجق المجفف والمتبَّل). كما كتب "أندريه فاركاش" وهو شاب مجري كان من شهود تلك الفترة يقول: "بحلول عام 1949 لم يكن قد تبقى من هذا السلامي اللذيذ سوى البقايا"، وكان هذا العام تحديداً هو العام الذي أعلن فيه "راكوسي": "أن مرحلة تاريخية جديدة من مراحل ديمقراطية الشعب قد وصلت". في نفس الوقت تقريباً كان الرئيس الأميركي هاري ترومان قد أعيد انتخابه، وقام مستعيناً في ذلك بفطرته السليمة وبنصائح "دين أتشيسون" وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت بافتتاح مجموعة من المؤسسات التي استطاعت احتواء قوة الاتحاد السوفييتي سلمياً. وبعد ترومان جاء دوايت إيزنهاور الذي شن عام 1952، بناء على نصيحة مستشاره للسياسات الخارجية في ذلك الوقت ووزير خارجيته المستقبلي "جون فوستر دالاس" حملة على سياسات ترومان الانهزامية واعداً بصد المد الشيوعي في أوروبا. كيف كان سيتم تحقيق هذا الهدف، يا ترى؟ لم يكن ذلك محدداً، ولكن وعد إيزنهاور اعتبر غير ذي أهمية لأن وجود الجيش السوفييتي في دول أوروبا الشرقية كان يعني أن أي شيء دون الحرب لن يكون له تأثير في تحرير دول أوروبا الشرقية من القبضة العسكرية والسياسية للاتحاد السوفييتي. ولكن الحقيقة أن وسيلة تحقيق ذلك الهدف كانت موجودة بالفعل في انتظار من يتعرف عليها. من بين المفارقات الساخرة التي اتصفت بها حملة إيزنهاور على ما أطلق عليه سياسات ترومان الانهزامية هو أن القائد الأعلى لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (أيزنهاور نفسه) والذي وعد بصد الشيوعية كان هو الشخص المسؤول عن السماح للجيش السوفييتي باحتلال برلين وبراغ وبودابست وفيينا. عندما رفض الاقتراح الذي قدمه له وينستون تشرشل في ذلك الوقت بشن حملة أنجلو- أميركية مشتركة عام 1944 عبر بلجيكا وهولندا وشمال ألمانيا وصولاً إلى برلين بحجة أن العقيدة العسكرية الأميركية ترفض إخضاع الاستراتيجية العسكرية للأهداف السياسية. وكانت وفاة ستالين والتغيرات التي حدثت بعد ذلك في الاتحاد السوفييتي والخطاب الذي ألقاه "نيكيتا خروتشوف" وشن فيه حملة على عهد ستالين دافعاً للأحداث التي وقعت في بولندا والمجر عام 1956. وقبل الثورة المجرية كان قد حدث تمرد ناجح في بولندا ضد الحكومة الشيوعية هناك أسفر عن المزيد من الحريات الثقافية وقلص من النفوذ الروسي في ذلك البلد. وتوقع المجريون في ذلك الوقت الحصول على نتيجة مماثلة، ولكن السوفييت الذين أصيبوا بصدمة مما حدث في بولندا كانوا في حاجة إلى تطمينات تؤكد أن إجراء المزيد من التغييرات في المعسكر الشيوعي لن تترتب عليه نتائج سلبية في علاقتهم مع الولايات المتحدة وقاموا من جانبهم بتقديم اقتراحات بالتعايش السلمي، وتوقيع اتفاقية عدم اعتداء، وتلميحات إلى أن حكومة الاتحاد السوفييتي لن تعارض حدوث تطور شيوعي على النمط الذي أحدثه "تيتو" في يوغسلافيا في دول أخرى في المعسكر الشرقي.. ولكن الولايات المتحدة لم ترد على الاقتراحات السوفييتية. وهكذا فإن الرجل الذي تبنى نظرية صد التغلغل الشيوعي في أوروبا أخفق في ساعة حاسمة من ساعات الأزمة، ليس في التصدي للشيوعية بل إنه أخفق حتى في فهم إشارات حكومة خروتشوف– بولجانين بأن الاتحاد السوفييتي يريد الخروج من أجواء الحرب الباردة. وفي الثلاثين من أكتوبر 1956 توقفت فجأة المرحلة الأولى من مراحل الثورة المجرية والتي تميزت بحدوث معارك شوارع بين القوات السوفييتية من جانب وبين المتمردين والجنود الوطنيين والطلاب المجريين من جانب آخر، واسحب الجيش السوفييتي من وسط مدينة بودابست معلناً وقف إطلاق النار. وفي اليوم التالي أعلن رئيس الوزراء المجري في ذلك الوقت "إيمري ناجي" حياد المجر في الحرب الباردة وتخليها عن عضوية "حلف وارسو". وأعلنت الحكومة السوفييتية في ذلك الوقت رغبتها في معالجة العلاقات السوفييتية مع جميع الدول الدائرة في فلكها وإجراء تغييرات على معاهدة "حلف وارسو". لم يرسل البيت الأبيض مقترحات مضادة لذلك وبدت واشنطن في تلك اللحظة أبعد ما تكون عن الرغبة في الاشتباك مع مشكلات وسط أوروبا، وأكثر اهتماماً بتأديب حلفائها بريطانيا وفرنسا لإقدامهما على غزو مصر. في الخامس من نوفمبر استأنف السوفييت هجومهم على بودابست، وبحلول الثاني عشر من الشهر كان التمرد قد قُضي عليه، وكانت فرصة تحقيق تسوية في وسط أوروبا كفيلة بوضع نهاية للحرب الباردة قد ضاعت لتستمر تلك الحرب لمدة ربع قرن آخر. كان ذلك منذ زمن طويل-ليس طويلا جداً- وليس هناك من يستطيع اليوم أن يقول ماذا كان يمكن أن يحدث لو كانت أميركا قد نجحت في استكشاف نوايا السوفييت ومغزى الاقتراحات التي قدموها والتي كانت تهدف للتوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات، وهو ما يدفعنا إلى أن نقول الآن -كما لابد أن هناك من قالوا في ذلك الوقت- إن المفاوضات ليست هي الأسلوب الذي يفضله الأميركيون. ـــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"