تعلمت من تجربتي الطويلة كمفاوض في الشرق الأوسط، بأن الطلب الأكثر إلحاحاً في عملية صنع السلام هو إقناع الأطراف المعنية بالتأقلم مع الواقع الجديد. واليوم في العراق، بعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على الغزو الأميركي لذلك البلد، لا يبدو أن أحداً من الأطراف هناك قد تأقلم مع الواقع المستجد. فقد يكون الشيعة، الذين يهيمنون على الحكومة العراقية، معذورين في عدم ثقتهم بالسنة، لكنهم يظلون أيضاً بعيدين عن الإقرار بحاجة السُّنة إلى الحصول على ضمانات رسمية تكفل لهم حقهم من الكعكة العراقية. وبينما يدرك السنّة، على الأقل من الناحية النظرية، أنه لم يعد بمقدورهم احتكار السلطة والتمتع بكافة الامتيازات، لكنهم على المستوى العاطفي مضطرين للتصالح مع فكرة أن الشيعة الذين كانوا في السابق طبقة متدنية في المجتمع، أصبحوا القوة السياسية المهيمنة في الساحة العراقية الآن. ومن ناحيتهم، يسعى الأكراد، بصرف النظر عما يقولونه، إلى الانفصال، وكل ما يريدونه هو التوصل إلى إطار سياسي يمنح الشرعية لتطلعاتهم دون إثارة حفيظة أي من تركيا أو إيران. لكن ماذا عن إدارة الرئيس جورج بوش؟ هل استطاعت التأقلم مع الواقع؟ إنها مازالت إلى حد الآن تدعي أنها تحقق تقدماً هناك، بينما يغرق العراق في أتون حرب أهلية طاحنة. كما أن خططها الأمنية لم تنجح في وقف العنف، وكلما أعلن عن قرب خفض قواتنا في العراق تراجعنا عن ذلك بسبب تصاعد الاقتتال واستفحاله. لذا أصبحت المطالب بالحفاظ على النهج نفسه في العراق، ضرباً من التحايل على الواقع والتهرب من مواجهته، لكن تحديد موعد للانسحاب يعد نوعاً من نكران الواقع الذي ستغرق فيه المنطقة لو تسرع الأميركيون في الخروج. فما العمل إذن؟ الخطوة الأولى أن نقر بأن العراق لن يكون البلد الديمقراطي والموحد الذي يعطي النموذج لدول الجوار، ذلك أن العنف المتنامي والانقسامات الحادة بين السنة والشيعة، استبعدت أي احتمال لانبثاق عراق موحد وديمقراطي. وفي المقابل يمكن للعراق، في أفضل الأحوال، أن يتحول إلى دولة ذات حكومة مركزية بصلاحيات محدودة، بينما تتمتع فيه الحكومات الإقليمية باستقلالية موسعة تتقاسم العائدات النفطية. أما على المستوى المحلي فيبرز نوع من التمثيل السكاني يضمن احترام الأقليات، وفي هذه الظروف يمكن للعراق أن يحقق بعض الاستقرار. وبالطبع لن يتحقق ذلك السيناريو لوحده، بل من المرجح أن ينبثق بعد حرب أهلية طويلة تبدو أنها الطريق الذي يسلكه العراق اليوم. وأعتقد أنه لكي تدار الأمور بشكل أفضل في ظل الحرب الأهلية وتسهيل خروجنا من العراق لابد من النظر في ثلاثة اقتراحات أساسية. أولاً على الرئيس بوش أن يصر على عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية ويحرص على ألا ينهي أعماله حتى يتم التوصل إلى اتفاق حول التعديلات المراد إدخالها على الدستور. فرغم اقتراح رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي خطة مشابهة في مبادرته للمصالحة الوطنية، فإنه فشل في معالجة القضايا الأساسية المرتبطة بتعديل الدستور والضمانات القانونية التي يطالب بها السنة. فقد أيد العرب السنة الدستور وشاركوا في انتخابات شهر ديسمبر الماضي على أمل أن يعدل الدستور بأن يتطرق إلى مسائل تقاسم الثروة النفطية، وحظر الانفصال، ثم تحديد دور الإسلام في الدولة. لكن بعد مرور كل هذا الوقت على إقرار الدستور لم تتم المصادقة على التعديلات المرجوة، وعندما شكلت مؤخراً لجنة لبحثها بدا وكأن السنة يفاوضون تحت المسدس بعدما انطلق حوار مواز يسعى إلى تطوير خطط انفصال الأقاليم. ولعل ما يحاول السنة تفاديه بكل السبل هو أن ينتهي بهم الأمر في دولة دون موارد. وإذا تأكد لهم أن ذلك ما سيحصلون عليه في النهاية فسيخضعون للتمرد، بينما سيتجه الشيعة إلى التمسك بمليشياتهم المسلحة رداً على ذلك. وهكذا تبدو الصيغة العراقية واضحة، فبدون عقد وطني، وبدون صيغة رسمية تضمن للسنة حقوقاً قانونية، لن ينتهي الدعم للمتمردين ولن يبدي الشيعة، من جانبهم، أي استعداد لحل المليشيات الموالية لهم. ويتجلى الاقتراح الثاني في عقد مؤتمر يجمع الدول المجاورة للعراق، وهي إيران والسعودية والأردن وسوريا وتركيا. فهذه الدول وإن كانت لا تريد للمشروع الأميركي أن ينجح في العراق وتتمنى فشله بكل السبل، فإنها تخاف عراقاً مضطرباً بعد انسحاب أميركي متسرع. فحرب أهلية واسعة النطاق تدفع باللاجئين إلى حدود الدول المجاورة، مع احتمال انتقال الاضطرابات إلى داخل حدودها وتدخلها لحماية مصالحها ومصالح الجماعات المتحالفة معها، تشكل كابوساً حقيقياً لكل من إيران والسعودية. وحتى في ظل الانقسامات الكبيرة بين الدول المجاورة للعراق، فإن رغبتها المشتركة في تجنب حرب أهلية واسعة قد تدفعها إلى الاتفاق على خطوط عريضة للحفاظ على استقرار العراق. لذا يتعين على الإدارة الأميركية العمل سريعاً على عقد المؤتمر الإقليمي في أقرب فرصة. ويتمثل المقترح الثالث في ضرورة توضيح بوش للمالكي بأنه لن يتم وضع موعد محدد لانسحاب القوات الأميركية، بينما سيتفاوض مع حكومته حول جدول زمني للخروج من العراق. والفرق بين موعد محدد للانسحاب ووضع جدول زمني، هو الفرق بين ترك العراقيين في اضطرابهم الحالي، وبين إخطارهم بضرورة تحملهم مسؤولية إدارة شؤونهم. فالأول يدفع الشيعة إلى الاحتفاظ بالمليشيات استعداداً للحرب الأهلية الواسعة، والثاني يمنح فرصة للعراقيين لبدء حوار حقيقي ينهي حالة الاحتقان السياسي ويضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية! دينيس روس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المنسق الخاص لشؤون الشرق الأوسط في إدارة الرئيس بيل كلينتون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"