عدتُ للتو من جولة في أوروبا دامت ثلاثة أسابيع؛ ولن أكون صادقاً إذا لم أعترف بأن التغير في المزاج العام إزاء الإسلام والعرب قد صدمني. فبعد سنوات من الانفتاح على المسلمين والإسلام، ها هي أوروبا تستيقظ اليوم على عهد مختلف وأمزجة مختلفة أيضاً. وقد كانت ثلاثة أسابيع أمضيتها في كل من إيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة كافية لاستنتاج أن الأغلبية العظمى من الأوروبيين الغربيين البالغ عددهم 350 مليون نسمة قد تجاوزت خيار "الحوار" في اتجاه "المواجهة" مع المسلمين. بل حتى المبادرة للاستفزاز، باعتبارها خيارهم المفضل للتعامل مع المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم. قبل تصريحات البابا بنيديكت السادس عشر المستفزة، والتي كان مؤداها تقريباً أن كل شيء متعلق بالحوار الإسلامي- المسيحي قد أُلغي الآن عملياً وعلينا أن نبدأ من جديد، كانت مؤشرات تصلب المواقف والآراء الأوروبية إزاء القيم والجاليات الإسلامية الحالية بارزة في القارة. لقد وجدتُ الحيرة والتأمل اللذين استقبل بهما الأوروبيون مثلاً التعليق الذي ورد في "تقرير الاستخبارات الوطني" بالولايات المتحدة تحت عنوان "تيارات الإرهاب العالمي: التداعيات بالنسبة للولايات المتحدة" معبِّراً جداً، والذي قال من جملة ما قاله إن "تعددية أكبر وأنظمة سياسية أكثر استجابة في الدول ذات الأغلبية المسلمة من شأنهما تخفيف بعض من الاستياء والتذمر اللذين يستغلهما الجهاديون". يقول المثل الشعبي المصري "الذي يده في النار ليس كمن يده في الماء"؛ وذاك كان رد الفعل الأوروبي الذي يقول إنه عندما يتعلق الأمر بالمجال الساخن بل الملتهب الذي يسمى الشرق الأوسط، فإن الأوروبيين يعتقدون أن فرص "تعددية أكبر" في البلدان الإسلامية منعدمة. إذ أشارت تعليقات وسائل الإعلام في روما ولندن وباريس إلى أنه في حال سقوط بعض الأنظمة الاستبدادية الحالية في المنطقة، فإن من سيخلفها قد لا يكون طرفاً آخر سوى حملة السيوف من جماعة "الإخوان المسلمين" وأمثالهم في "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"حزب الله" و"الجماعة الجزائرية المسلحة" من بين جماعات أخرى، أي أناس يبيحون تصفية وإقصاء كل الذين يعتبرونهم علمانيين. الواقع أنني فوجئت حين اكتشفت أن الموقف الشائع في أوروبا عن العالم الإسلامي هو بدرجة من التشوش وعدم الوضوح، إلى حد يجعل قطاعات واسعة من الأوروبيين يعتقدون أن الحكام الذين يُقال إنهم علمانيون في بلاد الإسلام، لا يختلفون كثيراً عن المتطرفين الجهاديين من حيث تطلعهم إلى السيطرة وشن الحرب على العالم والحكم بمنظومة دينية خاصة. ومن التوصيات الموجهة للأوروبيين التي وردت في تقييم وكالات الاستخبارات الأميركية فقرةٌ تدعو إلى محاربة الجهاديين في أوروبا نفسها، وقد جاء فيها: "إن الجهاديين يعتبرون أوروبا مكاناً مهماً لمهاجمة المصالح الأوروبية. إذ تقوم الشبكات المتطرفة داخل الجاليات المسلمة الكبيرة في أوروبا بتسهيل عملية التجنيد والإعداد لتنفيذ هجمات في المدن كما يظهر ذلك من خلال تفجيرات مدريد في 2004 وتفجيرات لندن في 2005". إلى ذلك، كان العديد ممن استجوبتُهم في العاصمة البريطانية لندن يشيرون إلى استطلاع الرأي الذي استهدف شرائح من الجالية المسلمة في بريطانيا، التي يبلغ تعدادها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، والذي أظهر أن 10 في المئة من المسلمين الذين جرى استجوابُهم بعد اكتشاف المخطط الذي كان يروم تفجير طائرات في أغسطس المنصرم قالوا إنهم "مستعدون" لتنفيذ هجمات انتحارية ضد مواطنين بريطانيين آخرين بأنفسهم؛ في حين رفض 70 في المئة آخرون إدانة هذا الموقف. وتعليقاً على هذه النتائج، عبّر كثير من البريطانيين عن صدمتهم. وكانت نتيجة ذلك دعوة الموقف العام الحالي في الشارع الأوروبي إلى الرد بقوة. وذلك يمثل تغيراً ملموساً في المزاج الأوروبي مقارنة مع ما كان عليه الوضع منذ عشر سنوات خلت. والواقع أنه يمكن للمرء التحدث مراراً وتكراراً عن حاجة المسلمين إلى الإصلاح والنقد الذاتي، غير أن الأوروبيين يعتقدون أن هذا الحديث لا يجد صدى له داخل المجتمعات المسلمة. وبعبارة أخرى، يقولون إنه مجرد كلام، ليس إلا. لقد كشفت لي الجولة الأوروبية التي قمت بها أن سكان أوروبا الغربية يعتقدون أنه يجب على المسلمين الذين يعيشون في الغرب أن يقبلوا بعقد اجتماعي واحد فقط، ألا وهو الالتزام بطريقة الحياة الغربية، أو الرحيل. ولاشك أن هذا التخيير قاسٍ، غير أنه للأسف هو لأمر الواقع اليوم. وبعبارة أخرى، فإن على المرء ألا يستمع لما يقوله جاك شيراك أو توني بلير من كلام مجامل ودبلوماسي في هذا الشأن، بقدر استماعه لما يقوله رجل الشارع في فرنسا والمملكة المتحدة، لأنه يقول الكلام الذي يجول في صدور كثير من الأوروبيين بعبارات واضحة ودون كنايات. عندما ماتت الصحفية الإيطالية ذائعة الصيت أوريانا فالاتشي في سبتمبر الماضي، احتفت بها الصحف الأوروبية عبر جهات القارة الأربع، ولم تثن عليها نظراً لإنجازاتها الصحفية واختراقاتها وحواراتها المشهورة مع أمثال الخميني وهنري كيسنجر فحسب، وإنما في المقام الأول لكتابها المتحامل والمتعصِّب حول الوجود الإسلامي في أوروبا، والذي دعا إلى طرد المسلمين الذين يرفضون الاندماج في المجتمعات الغربية. وقبيل وبعيد تصريحات البابا حول الإسلام، والتي تضاف إلى مواقفه السابقة التي قال فيها إنه لا يمكن لـ"أوروبا المسيحية" أن تقبل دخول مسلمي تركيا البالغ عددهم 70 مليون نسمة إلى حظيرتها، حدثت انفجاراتٌ صغيرة أخرى عديدة في أوروبا –الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية، رد الفعل الهولندي عقب مقتل المخرج السينمائي "فان جوخ" الذي انتقد معاملة المسلمين للنساء، ومؤخراً المدرس الفرنسي روبرت ريديكار الذي يختبئ اليوم بمكان ما بعد نشر مقاله في عدد التاسع عشر من سبتمبر من صحيفة "لوفيغارو"، والذي اعتبر فيه "أن المسلمين مصممون على تغيير قيم أوروبا الديمقراطية". أوروبا لا تعرف ماذا تفعل؛ والحوار انتهى؛ ووقت التحرك اقترب. وبعد كل خمسة عشر يوماً يعمل أعضاء البرلمان الأوروبي على تقليص حرية التعبير بالنسبة للأصوليين الإسلاميين والدعاة وغيرهم، وبالتالي المسلمين كافة. وهكذا، تم التعدي على الحق في ارتداء الحجاب في الأماكن العمومية، على غرار القيم التي جاء بها الإسلام. إنه واقع جديد علينا –نحن العرب والمسلمين- الإقرار به ومعالجته.