صرحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مؤخراً بالقول إن مجرد الإعلان عن وقف لإطلاق النار في لبنان, لن يكون حلاً للعنف الدائر الآن, مؤكدة على ضرورة التصدي لجذور المشكلة وأسّها. وعلى رغم اتفاقي التام معها في كل ما قالته, فإن "حزب الله" ليس هو جذر المشكلة ولا أسها, بقدر ما هو تفرع ثنائي عنها لا أكثر. فالحقيقة أن هذه الجذور إنما تعود إلى ذلك النزاع المأساوي حول فلسطين, الذي اندلع منذ عام 1948. وبالنتيجة فقد اضطربت مياه وسواحل البحر الأبيض المتوسط جميعها, وما مر وقت إلا وكان نزاع مستمر هنا أو هناك. وقد امتد هذا الوضع وظل على ما هو عليه, منذ أن أجهضت مساعي الأمم المتحدة الرامية للإعلان عن قيام دولتين مستقلتين إحداهما لإسرائيل والأخرى لفلسطين عام 1948. بيد أن الحرب اللبنانية الدائرة الآن, أشعلت في العالم عزماً وحماساً جديدين. ولعل الفرصة التي وفرتها هذه الحرب أكثر من أي وقت آخر مضى, هي الأكثر ملاءمة لحشد هذا الاهتمام والعزم الدوليين, واستثمارهما في وجهة التوصل إلى حل سلمي شامل لتلك المأساة التي امتدت زهاء ثمانية وخمسين عاماً. وليس من دولة غير الولايات المتحدة الأميركية, بوسعها قيادة هذا الجهد الدولي بما يتفق وضرورة إمساكنا بتلابيب الفرصة هذه. هذا وقد اتضحت المعالم العامة للتسوية السلمية الشاملة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني, منذ انهيار الجهود التي بذلها الرئيس الأسبق بيل كلينتون, عام 2000. وتشمل هذه المعالم ما يلي: أولاً الإعلان عن قيام دولة فلسطينية مستقلة, في حدود عام 1967, مع بعض التعديلات المتفق عليها بين طرفي النزاع. ثانياً تخلي الفلسطينيين عن مطالبتهم بعودة اللاجئين, مقابل إخلاء إسرائيل لمستوطناتها في الضفة الغربية, مع الأخذ في الاعتبار بأية تعديلات وترتيبات متفق عليها من الجانبين في هذا الشأن. ويتضمن هذا الحل تعهد المجتمع الدولي بتعويض المتضررين واللاجئين في كلا الطرفين جراء ذلك النزاع. ثالثاً ضرورة الأخذ بتأكيد العاهل السعودي الملك عبد الله في عام 2002, باستعداد العالم العربي للدخول إلى مرحلة إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل, إثر انسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 1967. رابعاً: على المملكة العربية السعودية ومصر أن تواصلا العمل مع السلطة الفلسطينية, وفقاً للخطوط والمرتكزات العامة للاتفاقية التي أبرمها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بين حركة "حماس" و"منظمة التحرير الفلسطينية" في شهر يونيو المنصرم, وهي الوثيقة المؤلفة من 18 بنداً. وعلى الحكومة الحالية أن تفاوض باسم السلطة الفلسطينية. خامساً: نشر قوة دولية ذات كفاءة وقدرة حربيتين على امتداد الحدود الجنوبية اللبنانية, ضمن خطة واسعة لوقف إطلاق النار بين الطرفين المتنازعين في الحرب اللبنانية الدائرة الآن. وفي الوقت نفسه, لا بد من نشر قوة دولية شبيهة, تكلف بمهمة الإشراف على الحركة والانتقال ما بين غزة والضفة الغربية. سادساً وأخيراً: الإعلان عن مدينة القدس عاصمة مشتركة لفلسطين وإسرائيل, شريطة أن تعزز هذا الإعلان ضمانات دولية بالحرية والحياة المدنية في القدس. وتكاد تكون كل هذه الأركان والعناصر الأساسية للتسوية السلمية معلومة بالنسبة لمعظم سكان المنطقة, إلى جانب بداهتها لكل من هو خارجها, من أولئك الذين كابدوا على امتداد الحقب من أجل التوصل إلى صيغة سلام نهائي بين الطرفين. غير أن المصاعب العملية في التوصل إلى صيغة كهذه, إنما تكمن في حشد واستقطاب الإرادة السياسية داخل الإقليم وخارجه, في سبيل ترجمة هذه المبادئ إلى اتفاق سلام نهائي بين الطرفين. ولهذا السبب فإن في الأزمة اللبنانية الراهنة فرصة ذهبية لتحقيق ما بدا طموحاً مستحيلاً. وبما أن هذا هو الأمل, فإنه لمن الصعوبة بل من الاستحالة بمكان, أن نطالب الطرفين الأكثر عداءً وتورطاً فيما بينهما, بقيادة مبادرة سلمية كهذه. وهذا ما يعني الإلقاء بعبء المهمة على الآخرين, لا سيما الولايات المتحدة الأميركية, التي بوسعها تعبئة المجتمع الدولي وإسرائيل والدول العربية معاً, وحشدها جميعاً من أجل هذه المهمة التي أقعدت كثيراً من الجهود السابقة. والسؤال هنا: كيف لجهد دولي وإقليمي كهذا أن ينظم؟ ولعل الأداة الأنسب هي الرباعية الدولية التي تضم كلاً من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة, التي أنشئت خصيصاً لهذا الغرض في عام 2001. وفي وسع هذه الرباعية أن تبدأ عملها بمستوى وزراء خارجية الدول الأعضاء فيها, وذلك من أجل تشكيل القوة الدولية اللازمة لحراسة الحدود الجنوبية اللبنانية وللانتشار في قطاع غزة أيضاً, ومن ثم تتجه نحو الإعلان عن وقف إطلاق النار بين الجانبين المتنازعين. وينبغي لهذه القوة الدولية الأمنية أن تكون بسعة التفويض والقدرات, بحيث تتمكن من التصدي الحازم لأي شكل من أشكال العنف. ويقيناً فإن من الأفضل أن تتألف هذه القوة من حلف "الناتو" أو أن تكون تحت قيادته على أقل تقدير. وعندما نأخذ في الاعتبار بالعقبات والمصاعب السياسية التي تكتنف خطوة كهذه, فإنه لمن الأهمية أن تشارك الولايات المتحدة الأميركية مشاركة مباشرة في تشكيل هذه القوة, باعتبار أن مشاركة كهذه هي وحدها الطريق المفضي لإقناع حلفائنا بالانضمام إليها. وما أن يتحقق وقف إطلاق النار ونشر القوة الأمنية في المناطق المتنازع عليها, حتى يتسنى للرباعية الدولية وضع إطار عام للمفاوضات الخاصة بالتسوية السلمية الشاملة, على أن يفسح المجال لاحقاً لمشاركة وفود وممثلين للدول العربية (الأردن, المملكة العربية السعودية, ومصر ولبنان) في وضع اللمسات والتفاصيل الدقيقة لهذه المفاوضات. وعلى الأرجح أن تتجاوز المكاسب الناشئة عن التسوية السلمية لجذور النزاع الدائر هذين اليومين, الحدود اللبنانية - الإسرائيلية - الفلسطينية, لتشمل المنطقة بأسرها. وفي وسع تسوية شاملة كهذه أن تكسر أنياب وأظافر المتشددين والأصوليين الإسلاميين, ليس في لبنان وفلسطين ومؤيديهم في الدول الإقليمية المجاورة فحسب, بل في مقدورها كذلك الحد من غلواء النفوذ الإيراني, علماً بأن هذه الدولة الأخيرة, وبما لها من أيديولوجيا جهادية تقوم على تصدير الثورات, هي الخطر الأمني الأعظم على استقرار المملكة العربية السعودية والعراق ومصر والأردن. وبالتوصل إلى تسوية شاملة للنزاع الإسرائيلي-العربي, فإنه سوف تتجه أنظار القادة العرب واهتماماتهم إلى الواجب الأهم والأكثر إلحاحاً, أي أن تنصرف إلى تحديث مجتمعاتهم وأنماط حياتهم, بما يفتح الطريق أمام المزيد من الوظائف والحياة الاجتماعية الاقتصادية اللائقة لمواطنيهم وكثافاتهم السكانية المتنامية. برينت سكاوكروفت رئيس حالي لمنتدى السياسات الدولية, ومستشار سابق للأمن القومي في عهد الرئيسين جيرالد فورد وجورج بوش الأب ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"