كما هو الحال في بقية أنحاء العالم، فإن أجهزة الإعلام في أميركا الشمالية، تخصص الجزء الأكبر من بنودها وتحليلاتها للأزمة الحالية في الشرق الأوسط، وخاصة الشق اللبناني. بدأ هذا الإعلام بالتحيز الكامل لإسرائيل، وهو لا يزال في جملته متفهماً أكثر لوجهة النظر الإسرائيلية حتى الآن، ولكن هناك دلائل على تنامي نظرة نقدية والتفات للانتباه إلى المذابح والمآسي الإنسانية التي تغطي الأرض اللبنانية. ويتفاعل هذا الإعلام المنحاز، مع وجهة النظر الرسمية، سواء في الولايات المتحدة أو كندا، ولقد كانت الحكومة الكندية حتى الخريف الماضي، تعبر عن وجهة نظر سياسية مختلفة تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، وحتى نحو المسألة العراقية، ولكن مجيء المحافظين الكنديين إلى الحكم بعد نجاحهم في الانتخابات، وطّد من العلاقات الكندية-الأميركية، فزاد التنسيق والتشاور بين البلدين. وكرر رئيس الوزراء الكندي الجديد، نفس الكلام الذي يقوله جورج بوش وكوندوليزا رايس، عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، خاصة ضد منظمة "إرهابية" -حسب قولهم- مثل "حزب الله". ولكن في مواجهة الانتقادات وحتى التظاهرات الشعبية، ومع اكتشاف حجم الدمار الواقع في لبنان، بدأت اللهجة الرسمية والإعلامية تتغير بعض الشيء- لكن في الشكل أكثر منها في الموضوع حتى الآن. ولنأخذ مثلاً رئيسة الدبلوماسية الأميركية كوندوليزا رايس، فمنذ البداية كان تحيزها كاملاً وصريحاً إلى جانب إسرائيل، لجهة عدم قبول وقف النار دون شرط التخلص من سلاح "حزب الله". بعد زيارتها المفاجئة لبيروت واجتماعها برئيس الوزراء (وتجاهل رئيس الجمهورية كلية)، ثم ذهابها إلى فلسطين واجتماعها برئيس السلطة (وتجاهل رئيس الوزراء كلية)، بدأت رايس تأخذ في الحسبان بعض المطالب اللبنانية والفلسطينية حتى تخفف من غلواء تصريحاتها الأحادية، لكن دون المساس بالتحيز لوجهة النظر الإسرائيلية. وأعتقد أن هذا هو الخط الرسمي الذي حاولت إقناع مؤتمر روما بالموافقة عليه: وقف إطلاق النار دون كسر حزب الله ما هو إلا مضيعة للوقت، على أساس أن هذه الأزمة ستتكرر بعد فترة قصيرة. فأساس الأزمة -حسب المنطق الأميركي-الإسرائيلي، هو سلاح "حزب الله" في الجنوب اللبناني، ولذلك يجب التخلص منه لحل الأزمة. لكن هناك مقولة تبدو جديدة في التوجه الأميركي؛ هي ما قالته رايس عشية سفرها إلى المنطقة؛ إن ما نشهده الآن من هجوم إسرائيلي ودك لبنان، ما هو إلا آلام المخاض لشرق أوسط جديد، كررت رايس هذه الفكرة مرتين في مؤتمرها الصحفي أمام مبنى وزارة الخارجية الأميركية، ثم أصرت عليها في لقاءاتها مع بعض القادة العرب وبعض الأوروبيين أيضاً. وفي الواقع فإن مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" ليس بالمقولة الحديثة، فقد نشر شيمون بيريز في عام 1993، كتاباً كاملاً بعنوان "الشرق الأوسط الجديد"، وأصبح هذا المفهوم أساساً للمؤتمرات الاقتصادية التي حاولت بناء منطقة شرق أوسطية: مؤتمر الدار البيضاء سنة 1994، مؤتمر عمان سنة 1995، مؤتمر القاهرة سنة 1996، ثم مؤتمر الدوحة سنة 1997. وقد فشلت هذه المؤتمرات في إنشاء منطقة الشرق الأوسط المتكاملة، وذلك رغم الاستثمارات المالية الضخمة والتسويق السياسي والإعلامي الذي أحاط بهذه المؤتمرات. كما أن الهجوم الإسرائيلي على لبنان، وحتى الوصول إلى بيروت كما حدث في عام 1982، وكذلك احتلال أجزاء من هذا البلد العربي ليس بالجديد. ماذا تقصد رايس بـ"الشرق الأوسط الجديد" إذن؟ ما تقصده -وهذا واضح في التركيبة الذهنية الحالية في كل من تل-آبيب وواشنطن- هو القضاء على أي قوى لا تساير الخط السائد في المنطقة حول التسوية والتهدئة ويساند المقاومة، أو ما تطلق عليه واشنطن وتل-آبيب "الإرهاب". ولذلك فرغم أن "حزب الله" يشترك في الحكومة اللبنانية، ومنظمة "حماس" ترأس الحكومة الفلسطينية، فلا زالت هاتان المنظمتان يُنظر إليهما على أنهما خارج نطاق ومنطق فكر "التسوية"، ولذلك وجبت إزالتهما من الطريق! هذا هو "الشرق الأوسط الجديد" في الفكر الأميركي الحالي، فما هو البديل الذي يجب على العرب اقتراحه؟