في مرحلة تغيب فيها الحرية والحوار العقلاني الديمقراطي والمستنير، تتشقق الأرض عن ظاهرات قلّما تخرج عن كونها دعوة لـ"ملء الفراغ". هذا هو واقع الحال في المجتمع العربي، بكلّ تجلياته القطرية. وفي بعض البلدان العربية حيث تُحكم الدولة-مع أجهزة أخرى- يدها على أهم القطاعات والحقول، نجد حالة من العقم الذي ينتج فقراً في المنتديات الثقافية والسياسية والفنية وفي المؤسسات السياسية والمدنية. وبتعبير آخر، حين يغيب "المجتمع السياسي" و"المجتمع المعرفي" في بلد ما يقوم على الشمولية السياسية، فإن ما ينشأ عن ذلك بكيفية طبيعية، سيسعى للتعبير عن نفسه بصيغ أخرى إذا وجد الآفاق مناسبة أمامه. وهذا ما يتعلق مباشرة بظاهرات جديدة أخذت تبرز في سوريا هي ظاهرة "القبيسيات". وبصرف النظر عما إذا كان النظام السياسي الثقافي يحتوي هذه الظاهرة أولا، أو هو ضالع في إنتاجها وتعميمها، فإن تلك الظاهرة تستمد "شرعيتها" من قلب البنية السوسيوثقافية والاقتصادية في البلد، حتى حين يتم إنتاجها بأيدي النظام السياسي الثقافي القائم. فهذه الظاهرة التي أخذت تفرض نفسها على نحو لافت في الحياة السورية العامة، وخصوصاً في الحقل النّسوي، نشأت منذ سنوات في بعض المدارس والحلقات الدراسية، وشيئاً فشيئاً تحولت إلى حالة متدفقة تضم مئات الآلاف من صغار سوريا ويافِعيها، فتيانا وفتيات، وهي تقوم على "حلقات" متزايدة، أخذت بالانتقال إلى الدول العربية وما بعدها في باريس وفيينا ومدن أميركية. وفي كل ذلك، تجد الظاهرة "القبيسية" دعماً من مرجعيات رسمية وأهلية متزايدة، فحسب ما جاء في تحقيق عنها نُشر في جريدة بيروتية، بتاريخ 3/5/2006، فإن "السلطات السورية سمحت أخيراً للداعيات التابعات للآنسة منيرة القبيسي، اللواتي يُلقّبن بالقبيسيات، بإعطاء دروس دورية في عدد من المساجد في دمشق، بعدما ركزن نشاطهن خلال الفترة الماضية على الدعوة في المنازل". وقد نقل كاتب التحقيق الصحفي عن الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي قوله "الأخوات القبيسيات يقمن بالدعاء المستمر للرئيس بشار الأسد من دون التطرق إلى السياسة". ويذكر التحقيق أن بين القبيسيات أميرة جبريل شقيقة الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة"، أحمد جبريل. ويُفهم من سياق الأمر أن الحلقة القبيسية تبدو وكأنها بديل عن منظمة "الاتحاد النسائي" الرسمية. إضافة إلى ذلك، "سجلت العقود الثلاثة الأخيرة انتقالهن بين النشاط العلني والدروس في المساجد والمدارس، وبين اقتصار نشاطهن على البيوت". ويتضح كذلك أن المسؤولات في الحلقة المذكورة يركزن على استمالة ذوات المنصب والثراء وبنات العائلات الشهيرة، وعندما تصل العضوة إلى "مرحلة الثقة، يكشفن أمامها المزيد من الأسرار". وقد انتشرت الحركة في الكويت، ولكن فتوى صدرت هناك ضدهن، ويرى البعض أن الحركة القبيسية تتأسس "على وحدة الوجود وتقديس الشيخة والتسابق على تقبيل يدها وقدمها أحياناً، وعلى أن كل ما تهواه موجود في ذات الله". وفي هذا وذاك، يلاحظ أن هنالك موافقة علنية على وجود هذه الظاهرة في سوريا من قبل السلطات الرسمية، على اعتبار أن أنصارها لا يخرجن عن الخط الأحمر، ولا شأن لهن بحقل السياسة، بما يعني الالتزام بـ"النشاط الديني الإيديولوجي". هكذا يتضح واقع ذو خصوصية بالغة التعقيد ويقوم على أن حقل الدين والتنظيم الديني مُباحٌ لجماعة القبيسية، في حين أن حقل السياسة محظور عليها. وبغض النظر عن أن خط الفصل بين كلا الحقلين ضيق جداً، بحيث يسهل العبور من أحدهما إلى الآخر بـ"أدلة أيديولوجية دينية"، فإن الأمر يحمل في طياته إمكانية الانتقال أو "الانزلاق" من الأول إلى الثاني، حتى لو كانت هناك تطمينات بعدم حصول ذلك. والسؤال الأكبر هنا قد يتمثل في ما يلي: لماذا لا تُفتح ساحات حوار عقلاني ديمقراطي بين كل الفرقاء الذين يكوّنون المجتمع العربي، والسوري من ضمنه؟ فمثل هذا الحوار المؤسَّس على إقرار بتعددية سياسية وإيديولوجية وتنظيمية هو القمين بقيادة الأمة على نحو سلمي ومثمر وبناء. خلاصة القول هنا، لا تقوم على اللجوء إلى الحظر والمنع لهذا الفريق أو ذاك، بقدر ما تتمثل في فتح حوار وطني وديمقراطي وعقلاني يمكن أن يُفضي إلى مصلحة كل من يعتصم بهذا الوطن، ويرى فيه رايته ومظلته. ومن شأن هذا، الدعوةُ إلى التأكيد على أن مصداقية هذا الفريق أو ذاك إنما تكمن في العمل على ذلك. ومن قصر النظر الاعتقادُ بأن السماح بحقل الإيديولوجيات وحده من هذا النمط أو ذاك، أمر لا يقود إلى أخطاء فاحشة. والمهم أن يكون السماح بهذا الحقل وبالحقل السياسي والثقافي كذلك أمراً وارداً للجميع.