عنوان هذا المقال قد يكون أمنية أو دعوة صادقة إلى دول الخليج النفطية لتصبح غير نفطية، وليس الموضوع هنا هو البحث عن مصادر لتنويع القاعدة الاقتصادية أو لتعدد مصادر الدخل القومي، بقدر ما هي دعوة جدية ومخلصة للتخلي عن مصادر الطاقة من نفط وغاز طبيعي كمصدر دخل رئيسي وربما وحيد، وعدم قصر التفكير في حقبة ما بعد النفط فقط التي يتوقع كثيرون من المسؤولين والخبراء أنها تراوح فترة تمتد من عقود عدة إلى أكثر من قرن من الزمن. دعونا نفكر ماذا سيحدث لو تخلت دول الخليج عن ثروتها من النفط والغاز؟ أو أتى اليوم الذي تنتهي فيه حقبة النفط، فماذا سيحدث لو أن الخليج بات خالياً من النفط؟ من المؤكد أن لهذا الأمر مزايا وعيوباً أو جوانب إيجابية وأخرى سلبية، وما يعنينا هنا هو الإيجابيات ومواطن القوة ومزايا هذا التوجه لأنها في الواقع تفوق الجوانب الأخرى. فمن الناحية الداخلية يجب أن نفرق بين دول خليجية قد استعدت من الآن لهذه الحقبة نفسياً ومعنوياً ومادياً واقتصادياً، ودول أخرى لم تعرْ الموضوع أي اهتمام، وتعتقد بأن النفط موجود والعالم بأسره في حاجة إليه والسوق ترتفع أسعارها كل ساعة، ولا يوجد ما يقلق من نفاد النفط طوال فترة عمل الحكومة، لكنها لا تفكر في المستقبل. لذلك فإن النوع الثاني من الحكومات هو ما نعنيه، حيث ستجد هذه الحكومات نفسها غارقة في العمل ليلاً ونهاراً من أجل الاستفادة من ثروة "البترودولار" المتبقية وتسخيرها في مشروعات صناعية واستثمارية ذات عوائد مالية ضخمة، وستركز جل جهدها للبحث عن مصادر للدخل القومي، وستبذل هذه الحكومات جهودها كلها للحد من المصروفات الحكومية، وتقليص المصروفات العامة. وهناك بعض دول الخليج التي لا تمتلك بنية أساسية صناعية كافية تسمح لها بتنفيذ مثل هذه المشروعات، لذلك ستبدأ في إيجادها وربما لن يسعفها الوقت للوصول إلى مستوى الدخل المطلوب لتلبية حاجة مواطنيها الأساسية من جانب، والحفاظ على مستوى الرفاهية الاجتماعية من جانب آخر، وستقطع العالم شرقاً وغرباً لتأتي بأدمغة وعقول عبقرية تستطيع أن تحل مشكلاتها المالية المتفاقمة، وتواجه معضلات الحفاظ على مكتسبات ومكاسب الدولة، كما ستلجأ الحكومات إلى منظمات المجتمع المدني لشحذ همم المواطنين على العمل وتغيير مفاهيمهم تجاه الوظائف جميعها من ناحية، وتفهم ظروف الوضع الجديد الذي تواجهه الدولة من جانب آخر. سيسارع المواطنون "العازفون" و"المتأففون" و"المتعالون" و"المتكبرون" عن امتهان بعض الوظائف إلى قبولها، بل ربما يسعون إلى منافسة الهنود والباكستانيين والسيرلانكيين والبنجالاديشيين والفلبينيين ومواطني جنسيات آسيا بأسرها لتولي بعض الوظائف الدنيا، وستكون الرواتب منخفضة في وقت سترتفع فيه الأسعار بشكل جنوني نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة التي سيتم استيرادها من الخارج من ناحية، وللزيادة الكبيرة في نسبة التضخم من ناحية أخرى. ستتنبه الحكومات الخليجية إلى وجود مئات بل ربما آلاف من مواطنيها ذوي تأهيل عالٍ وكفاءة إدارية وقيادية وفنية تساوي الخبراء من الوافدين المستوردين من الدول المتقدمة والمتأخرة، وربما تجد أن بعضهم يفوقهم في قدراته لسبب بسيط أن المواطن الكفء أدرى الناس بأوضاع دولته وظروفها، لذلك ستتنافس الأجهزة والمؤسسات الحكومية على استقطاب هذه الكفاءات، وتفعيل دورها في السياسة العامة للدولة، ولتحمل مسؤوليتها. أما من الناحية العلمية والثقافية والإعلامية فستكون هناك طفرة غير مسبوقة في هذه المجالات جميعها، بهدف أن يواكب التعليم متطلبات سوق العمل من وظائف، وعودة طبيعية إلى الثقافة الخليجية بكل ما تحمله من أصالة وتراث يحثان على مواجهة صعوبات الحال ويدفعان في اتجاه تحقيق المحال، مع اهتمام غير مسبوق بالقيم والأعراف الخليجية التي تزيد من صلابة الإنسان وتذكره بتاريخه العريق في صراعه مع جفاف الصحراء والتغلب على مصاعبها. سنجد أن الإعلام المرئي قد تخلى عن البرامج التافهة للتسلية والترفيه، وتبنى برامج جادة وهادفة تتواكب مع استراتيجية المرحلة، وذات صبغة خليجية، لأنه من المؤكد سيتم التخلي عن المسخ الإعلامي الذي يديره خبراء من أنحاء العالم كله، والاعتماد على المواطنين النابغين في مجال الإعلام، وسوف يمتد هذا الوضع إلى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، وستجد دول الخليج النفطية أن لديها كفاءات إعلامية لا تقل عن المستوى العالمي ولكن "زمار الحي لا يطرب أهله". ستكون هناك انطلاقة حقيقية في المجالات كافة تقوم على عاتق أبناء الخليج، وسيجري الإصلاح الشامل خاصة السياسي والاقتصادي في قفزات هائلة، وستزداد مساحة المشاركة السياسية الشعبية في صنع القرارات والسياسات العامة، وسيختفي الفساد الإداري والمحسوبية والوساطة في ظل نمو الرقابة الشعبية، والحد من الاعتماد على العمالة الأجنبية إلا في أضيق الحدود، وسيكون المردود المالي للمشروعات والاستثمارات للدولة لا يشاركها فيه تحويلات العمالة الأجنبية أو هدر لمصروفات استقدام الخبراء وتغييرهم وتبديلهم، وستبذل الحكومات والقطاع الخاص جهوداً مضنية لتحقيق التوازن في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات. سيعم الاستقرار والسلام منطقة الخليج بعد انتفاء أسباب أطماع الدول الكبرى في المنطقة، وستحل مشكلات الحدود دون الحاجة إلى مفاوضات ومقايضات، وستقل الصراعات البينية بين دول المنطقة حول مناطق الثروة والنفوذ، بل ستسعى بأقصى جهدها إلى التعاون والتنسيق فيما بينها لتطوير الاقتصاد والتجارة والصناعات. ولكن من المهم النظر إلى موضوع المياه التي سيكون سعرها في المستقبل أغلى من برميل النفط حالياً، في ظل الحاجة إلى الاكتفاء الذاتي من الزراعة، والعمل على مواجهة الانكشاف الغذائي. من المؤكد أن "الثروة البشرية" في دول الخليج النفطية هي الأساس في مواجهة حقبة ما بعد النفط، فلماذا لا يتم الاستثمار الكامل لهذه الثروة الآن؟ ولا نقصد هنا العملية التعليمية وحدها وتطويرها وتحديثها لتصل إلى المستويات العالمية في الدول المتقدمة، ولكن الاهتمام بصقل المهارات بالدورات التدريبية المهنية ومنحهم الفرصة لتولي المسؤولية وتشجيعهم على مزاولة الأعمال والوظائف كافة، وتبني سياسات إعلامية قادرة على تثقيف "الثروة البشرية" تجاه قضاياها المصيرية. لا يكفي أن نفكر في مرحلة ما بعد النفط بقدر ما يجب أن نفعله اليوم استعداداً لهذه المرحلة بالاعتماد على الكفاءات المواطنة والتوسع في الإصلاح السياسي ليكون للمواطنين دورهم في صنع السياسة العامة، والاهتمام بحرية المرأة ومنحها حقوقها كاملة غير منقوصة. كما ستتغير خصائص وسمات الطبقات الاجتماعية في دول الخليج النفطية التي كانت إفرازاً طبيعياً للحقبة النفطية، وقلت خلالها الفروق بين الطبقات وتوافرت الحياة الكريمة للمواطنين، لنجد أنه بعد اختفاء النفط ستتجه الطبقة الثرية التي استفادت مباشرة من ريع النفط إلى الخارج لاستثمار أموالها، أما الطبقة الوسطى فسوف تتآكل وتتقارب مع الطبقة الدنيا وستزداد مطالبها المعيشية، في الوقت الذي ستعاني فيه الطبقة الدنيا شظف العيش. قد يرى بعضهم أن الخليج في ظل النفط أفضل من خليج بلا نفط، ورغم صحة هذه الحقيقة من الناحية المادية فإنها تظل خاطئة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، الأمر الذي يؤكد ضرورة قيام دول الخليج النفطية بالاهتمام بمرحلة ما بعد النفط إذا كانت تأمل في اختيار مستقبلها ولا ترضى بما سيفرض عليها. إن هناك حاجة حقيقية للتفكير فيما يستحيل التفكير فيه، والارتكان على أساس "عند انتهاء النفط يحلها ربنا"، أمر لا يستقيم على مستوى دول تنشد الحفاظ على مستوى معيشي معين لمواطنيها، وتأمل في غد أفضل، والحل بسيط هو إعادة اكتشاف القوة البشرية المتميزة من المواطنين والاستفادة منهم وتشجيعهم، وتبني الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل والجدي، والاستفادة من ريع النفط في مشروعات استثمارية كبرى... فإلى خليج خالٍ من النفط.