هناك اتفاق عالمي على أن السمة الأساسية للعالم الحديث هي الاعتماد المتبادل بين كافة دول العالم. لكن لم يتوافر لدينا جميعاً الوقت الكافي بعد لكي نفكر بتعمق في تبعات هذه السمة العالمية ولا أن نستوعب أن سِفْرَ المعايير الدولية قد تمزق بأكمله. إن الاعتمادية المتبادلة فيما بين دول العالم -وهي حقيقة مفادها أن وقوع أزمة في مكان ما من العالم تستتبع في يومنا هذا أزمة في كل مكان بالعالم- تقف ساخرة الآن من المفاهيم التقليدية حول المصالح الوطنية. وأضحت كل الأمم، حتى الأمم التي بضخامة وقوة الولايات المتحدة، تتأثر اليوم تأثراً عميقاً وبسرعة البرق بالأحداث التي تقع فيما وراء حدودها. وإلا فلماذا إذاً أصبحت قضية الهجرة هي القضية المتربعة على قمة جدول السياسات المحلية في الكثير من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة؟ الإجابة هي أن العولمة قد جعلت من ظاهرة الهجرة الجماعية أمراً واقعاً، ومن ثم فإن التنمية العالمية، هي وحدها القادرة على جعل الهجرة واقعاً محتملاً. وبالمثل يمكن التساؤل لماذا تسلقت قضية الطاقة بسرعة صاروخية إلى قمة جداول الأعمال الوطنية ببلدان العالم؟ والإجابة هي بسبب أن دولاً مثل الصين والهند تحتاج إلى الطاقة لدفع عجلة تناميها المتسارع، بينما يشكل ذلك خطراً يتمثل في تغير مناخ الأرض. ويكمن حل هذه المشكلة في الاتفاق على إطار دولي يتسنى من خلاله للدول النامية أن تواصل تناميها، ويتسنى للدول المتقدمة المحافظة على مستوى المعيشة فيها، مع حماية البيئة من الكوارث. ومن ثم فمن غير الممكن اليوم أن يكون لدينا مفهوم متسق للمصلحة الوطنية دون أن يوازيه تواجد مفهوم مترابط ومتكامل للمصلحة الدولية أيضاً. إن تأثير مثل هذه التحديات يطالنا جميعاً ولا يمكن مجابهتها بشكل فعال دون أن نعمل سوياً على ذلك. كما لم يعد من الممكن أن ننتظر لنرى ما قد تسفر عنه هذه التحديات الناجمة عن العولمة مثلما كنا نفعل فيما مضى من الزمان. فهذه التحديات تستلزم منا اتخاذ إجراءات وقائية مسبقة وليس مجرد ردود فعل تستجيب لتداعياتها؛ وتكون هذه الإجراءات المسبقة على سبيل الحيطة لا اليقين، وغالباً ما تكون أيضاً خارج الحدود الوطنية للبلدان. إن ظاهرة الإرهاب التي نواجهها الآن في داخل بريطانيا لم تكن وليدة بها برغم أن من قتل الناس يوم السابع من يوليو الماضي كانوا إرهابيين بريطانيين وُلِدوا في بريطانيا. ومن ثم فإن الحل يكمن في كل من المدارس ومراكز التدريب وعمليات التسييس العقائدي التي تبعد عن بريطانيا آلاف الأميال، كما يكمن أيضاً في المدن والبلدات الصغيرة داخل بريطانيا المعاصرة. وبالمثل فإن حل ظاهرة الهجرة الجماعية يكمن في البلدان التي هي مصدر لهذه الهجرة، وليس في البلاد التي تشعر بآثارها. ولكن ليس من الممكن التوصل إلى اتفاق على صيغة عمل مشتركة لمواجهة هذه التحديات إلا إذا بُنِيَت على إطار قِيَم مشتركة -قِيَم الحرية والديمقراطية والتسامح والعدالة. وتلك هي القيم التي تقبلها كل الأمم والأديان والأعراق، برغم أن هذه القيم لا يؤمن بها كل الأفراد المنتمين لهذه الأمم. إن هذه القيم قادرة على إلهام الشعوب وتوحيد الصف. ونحن بحاجة لخلق مجتمع دولي يجسد هذه القيم ويسعى إلى نيل هذه القيم العالمية الطابع. إن جدول الأعمال الذي أمامنا ذو حجم ضخم. وهناك بشكل متزايد عدم تكافؤ غير قابل للتصحيح بين التحديات العالمية التي نواجهها والمؤسسات الدولية التي تجابه تلك التحديات. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية اكتشف الناس أنهم يحتاجون لهيكل مؤسساتي دولي جديد. أما في هذه الحقبة الجديدة، مع بداية القرن الحادي والعشرين، فإننا نحتاج إلى تجديد هذا الهيكل المؤسساتي الدولي. وقد طرحت في خطاب لي ألقيته بالولايات المتحدة يوم الجمعة بعض المقترحات المبدئية من أجل التغيير. يجب أن أذكر أولاً: أن كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة قد بذل جهداً خارقاً في ظروف كادت تكون مستحيلة في أغلب الأحيان، ومن ثم فهو يستحق الدعم فيما يقوم به من برنامج إصلاحات بالمؤسسة الدولية. ولكن مجلس أمن دولي تكون فرنسا أحد أعضائه الدائمين دون ألمانيا، أو بريطانيا دون اليابان، أو الصين دون الهند - ناهيك عن غياب أية عضويات دائمة بالمجلس تمثل أميركا اللاتينية وأفريقيا -لا يمكن أن يكون أمراً مقبولاً من ناحية الشرعية الدولية في هذا العصر الحديث. فدعونا إن لزم الأمر نتفق على صيغة انتقالية للتغيير يمكن أن تكون بمثابة جسر لتسوية هذا الأمر في المستقبل. لابد وأن نعزز نطاق صلاحيات الأمين العام للأمم المتحدة بحيث يتسنى له رفع مقترحات لمجلس الأمن من أجل تسوية النزاعات طويلة الأمد، وتشجيعه على رفع هذه المقترحات. والأمر الثاني متعلق بكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هناك حاجة كما سبق وأن طرح في زمن سابق بإدماج المؤسستين. ولكن على أية حال هناك حاجة ماسة لإصلاح المؤسستين. ثالثاً، هناك جدل قوي ينادي بتأسيس منظومة "آمنة للتخصيب" متعددة الأطراف لإنتاج الطاقة النووية. ووفقاً لهذه المنظومة تضطلع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدارة مصرف لليورانيوم لضمان توفير مصدر للطاقة النووية التي تحتاجها كل الدول التي تستخدم الطاقة النووية دون الحاجة لأن تمتلك كل دولة بمفردها منظومة دائرة للوقود النووي. رابعاً، تعقد دول مجموعة الثماني اجتماعاتها مجموعة الثماني+ الخمسة بصفة دورية. ويجب أن تأخذ تلك الاجتماعات هذه الصيغة على الدوام. وأخيراً نرغب في أن ترتقي أهمية منظمة الأمم المتحدة للبيئة إلى المستوى الذي يتناسب مع درجة الأهمية التي تحتلها قضية البيئة على جدول الأعمال الدولي. إنني لا أقلل من شأن ما يحيط بإنجاز مهمة التغيير هذه من مصاعب ومخاطر. لكنني أعلم ما هي العقبة الكبرى في طريق هذه التغييرات، ألا وهي أن عملية تطوير مؤسسات دولية فعَّالة ومتعددة الأطراف تتطلب أن تتخلى بعض الدول عن قدر من استقلالها. ترغب الأمم القوية في وجود مؤسسات متعددة الأطراف أكثر فعالية، ولكنها ترغب في ذلك فقط عندما تكون على يقين من أن هذه المؤسسات ستكون طوع إرادتها. وما تخشاه هذه الأمم هو وجود مؤسسات متعددة الأطراف تعمل بإرادتها الشخصية. لكن إذا ما وُجدت قاعدة مشتركة للعمل -وتم تحديد الأهداف والغايات- عندئذ ستستفيد كل الدول بغض النظر عن مدى قوتها من إنابة الآخرين في معالجة مشكلات لا يتسنى لها معالجتها بصورة منفردة. ومن ثم تتحقق المصلحة الوطنية الخاصة بدولة بذاتها عن طريق العمل الجماعي الفعال. ومنذ أن أصبحتُ رئيساً للوزراء، أصبحت أكثر اقتناعاً بأنه من الخطأ الصارخ أن يكون هناك تمييز بين صنفين من السياسة الخارجية؛ تلك التي تدفعها القيم وأخرى تدفعها المصالح. إن العولمة تُوَلِّدُ الاعتمادية المتبادلة فيما بين الدول. والاعتمادية المتبادلة فيما بين الدول تُوَلِّدُ الضرورة لوجود منظومة قيم مشتركة تساعدها على النجاح في إنجاز المهام. إن ما لدينا من قيم هي دليلنا الذي يرشدنا في عالم اليوم. ولكن لكي نطبق هذه المقولة يتعين علينا أن نكون على استعداد للتفكير بسرعة أكبر وأن نتصرف بصورة أسرع للدفاع عن تلك القيم –ولكم أن تسمّوا ذلك إن أردتم بالاحتراز الوقائي التقدمي. ولهذا الاحتراز الوقائي جدول أعمال ينتظر أن نعدّه وقادر على جمع شمل عالم انقسم يوماً ما. ولن تكون هناك فرصة لتحقيق ذلك أفضل من الآن.