لم يسبق على مدى الخمسة والعشرين عاماً الماضية أن تعرضت أسواق المال والنقد العالمية لضغوط وتطورات متلاحقة وسريعة كما هو الوضع في الوقت الحاضر، فأسعار النفط تواصل الارتفاع رغم كل الإجراءات المتخذة من داخل منظمة الأوبك وخارجها، بحيث بات الأمر وكأنه خارج عن السيطرة.
منذ اكتشاف الذهب الأسود في القرن التاسع عشر يحاول الذهب الأصفر اللحاق به في كل مرة تتجاوز أسعار الأول الأرقام القياسية، فالذهب الأصفر يرفض التنحي عن مكانته التي احتلها منذ عرفه الإنسان قبل قرون طويلة. ففي الأسابيع القليلة الماضية تجاوز سعر الأونصة 625 دولاراً للمرة الأولى منذ عام 1980 عندما وصل سعر الأونصة إلى 847 دولاراً.
يضاف إلى ذلك مستويات التضخم والتذبذبات الحادة في أسواق المال والبورصات العالمية، وبالأخص البورصات العربية والخليجية منها على وجه التحديد، مما خلق حالة من الهلع وعدم اليقين لدى فئة كبيرة من المستثمرين، خصوصاً وأن هناك تداخلاً غير منطقي بين العوامل الإيجابية والسلبية، فبعض التطورات الإيجابية يقابلها رد فعل سلبي على عكس توقعات المستثمرين والمتعاملين في الأسواق المالية والعكس صحيح.
هذه الأوضاع والتطورات المستمرة أوجدت حيرة مستعصية لدى غالبية المستثمرين، وبالأخص في المنطقة العربية. هنا دعونا نتساءل هل يوجد ما يدعو فعلا لمثل هذه الحيرة؟ ربما يبلغ التساؤل ذروته في أسواق النفط، حيث هناك توازن بين العرض والطلب لا يبرر الارتفاع المتواصل، أما أسعار الذهب، فإنها ككيس الشاي لا تعمل إلا في الماء المغلي، وبما أن مناطق عديدة من العالم تشتعل بفضل اندلاع بؤر التوتر والصراع بفضل سياسة "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة، فإن الذهب يعتبر الملاذ الآمن للمستثمرين بشكل عام.
في كلتا الحالتين، فإن أسعار النفط والذهب المرتفعة في الوقت الحاضر مبنية على توقعات ومخاوف أكثر من كونها انعكاساً لظروف موضوعية على علاقة بقانون العرض والطلب في الأسواق العالمية، حيث يقف التوتر بين الولايات المتحدة وإيران على رأس تلك التوقعات والمخاوف، وبحكم موقع إيران النفطي والجيو- سياسي، فإن الانعكاسات كانت كبيرة ومؤثرة.
وإذا ما تناولنا الجانب النفطي، فإن إنتاج النفط الإيراني الذي يقارب 4 ملايين برميل يومياً إضافة إلى مرور ثلاثة أضعاف هذه الكمية يومياً من خلال مضيق هرمز خلق مخاوف كبيرة بإمكانية نقص الإمدادات إذا ما تدهورت الأوضاع في المنطقة. في المقابل تمخض الارتفاع الكبير في أسعار النفط في العامين الماضيين عن فوائض بمليارات الدولارات أدت إلى تضخم أسواق المال الخليجية والعربية، إلا أن بعضها وجد طريقه في الآونة الأخيرة نحو الذهب الأصفر تحت تأثير توتر الأوضاع واحتدامها بعد إعلان إيران عن نجاحها السريع في تخصيب اليورانيوم وتعمق أزمتها مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة على وجه الخصوص. ويبدو أن هناك إقبالاً كبيراً على شراء الذهب من قبل البنوك المركزية بسبب الانخفاض المتواصل في قيمة العملة الأميركية ومن قبل المستثمرين، بما في ذلك المستثمرون الإيرانيون الهلعون من إمكانية تدهور علاقات بلدهم بالولايات المتحدة.
بناء على هذا التحليل المختصر ومع الأخذ بعين الاعتبار عمليات المضاربة وجني الأرباح، يمكن القول إن أسعار النفط والذهب مرشحة للمزيد من الارتفاع والتقلبات الحادة نزولاً وصعوداً بالتزامن مع التوترات والنزاعات الإقليمية والعالمية، كما أن العملة الأميركية مرشحة للسير عكس هذا الاتجاه، أي للمزيد من الانخفاض، متأثرة إلى جانب الأوضاع السياسية والأمنية، بالارتفاع الحاد في مستويات العجز في الولايات المتحدة.
من الواضح أن حالة التوتر وعدم اليقين سيستمران في الفترة القادمة وسيجدان لهما انعكاسات خطيرة على اقتصاديات بلدان عديدة وعلى توجهات المستثمرين في كافة أنحاء العالم. وما على المستثمر الحاذق والواعي إلا الاستفادة من الحكمة القديمة القائلة بعدم وضع البيض في سلة واحدة، فتنوع مكونات المحافظ الاستثمارية، والابتعاد عن عمليات المضاربة، والتركيز على مجالات الاستثمار الجيدة، ووضع استراتيجيات استثمارية بعيدة المدى، وعدم الهلع من التطورات الآنية التي أشرنا إليها، جميع هذه التوجهات تعتبر ضمانة أكيدة للحصول على عوائد مجزية في المستقبل، خصوصاً وأن أسواق المال والاقتصاديات الخليجية بشكل عام تعتبر من الاقتصاديات الناشئة التي تملك مقومات تنموية كبيرة، مدفوعة بالثروة النفطية وعوائدها الضخمة، وبنمو كبير في القطاعات الاقتصادية غير النفطية، وبسياسات الانفتاح المتزنة والمرنة المتبعة في دول المنطقة.