خلال الاجتماع السنوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي بدأ يوم الخميس الماضي, علت أصوات مجموعة صغيرة من المتظاهرين والمحتجين بالهتاف: من نشكر على فساد الشركات... البنك الدولي أم صندوق النقد؟! وما هي إلا دقائق معدودات, حتى نجحت قوات الأمن في إخراج المتظاهرين المشاغبين من القاعة التي انعقد فيها المؤتمر الصحفي الخاص بالاجتماع. غير أن الذي استحوذ على اهتمام الشبكة الدولية ومختلف المواقع الإلكترونية المهتمة بالأمر, هو الغياب المدهش للجدل والخلاف حول مدة العشرة أشهر التي أمضاها "بول وولفوفيتز" في منصبه الحالي, رئيساً للبنك الدولي, المؤسسة العالمية الأهم في مكافحة الفقر. يجدر بالذكر أن وولفوفيتز –المسؤول السابق بوزارة الدفاع الأميركية, الذي أصبح بمثابة مانعة صواعق لكافة الانتقادات الموجهة للحرب على العراق, إلى جانب تحويله إلى مادة للسخرية في فيلم "فهرنهايت 9/11" الذي أخرجه "مايكل مور"، قد تمكن من نزع فتيل الكثير من المعارضة والانتقادات الموجهة إليه سابقاً, من خلال منصبه الحالي في البنك الدولي.
ففي وقت مبكر من تسلمه للمنصب الجديد, عمد "وولفوفيتز" إلى الدفع باتجاه تخفيف ديون الدول الفقيرة والنامية. وفي يوم الجمعة الماضي, أعلن "وولفوفيتز" حصوله على ما يكفي من أصوات حملة أسهم البنك, للمصادقة على خطة ترمي إلى تخفيف ديون 17 دولة من أفقر دول العالم, معظمها في أفريقيا, بقيمة مقدارها 37 مليار دولار. ولكن جاء في تعليق "ماكس لاوسون" مستشار السياسات في منظمة "أوكسفام" العالمية, أن "وولفوفيتز" ليس ملزماً بفعل ذلك. أما من ناحيته, فيزعم "وولفوفيتز" لنفسه قيادة حملة واسعة النطاق ضد الفساد. وبالفعل فقد جمد أو ألغى خلال الأشهر القليلة الماضية, ما يزيد على مليار دولار من القروض المخصصة لعدد من الدول النامية, بسبب ما نسب إليها من ممارسات فساد. وقد راق ذلك للمحافظين الذين يُبدون قلقاً إزاء ممارسات الفساد المحيطة بالقروض الموجهة إلى الدول النامية, لاسيما تعرضها للسرقة من أفواه الفقراء بواسطة الحكومات وأصحاب الأعمال الذين يشترون ضمائر الساسة والمسؤولين بالرشاوى. كما أظهر "وولفوفيتز" في أكثر من مرة رغبته في "عض" يد إدارة بوش التي تطعمه. وقد أفادته تلك الرغبة كثيراً في التخفيف من وطأة الاتهام القائل إن تعيينه في المنصب المذكور, إنما كان تعبيراً وحرصاً, من إدارة بوش على أن يتحول البنك الدولي, إلى مؤسسة تخدم المصالح الأميركية وحدها دون غيرها. ففي المؤتمر الصحفي الناجح الذي عقد يوم الجمعة الماضي, وجه "وولفوفيتز" انتقاداً مخفف اللهجة إلى الولايات المتحدة الأميركية, بسبب ما وصفه بضآلة مساهمتها في توفير خدمات التعليم لنحو 100 مليون طفل من أطفال الدول النامية الذين لم يتم إلحاقهم بالمدارس بعد.
ومما لاشك فيه أن الانتقادات لا تزال تلاحق "وولفوفيتز", إلا أنها خفت كثيراً, بسبب الجهود التي يبذلها في منصبه الحالي, في رئاسة تلك المؤسسة المالية الضخمة, التي تسودها السرية والبيروقراطية, وتعاني من عدم كفاءة في توفير القروض السنوية السخية, التي تصل قيمتها مليارات الدولارات, وبأدنى الفوائد للدول الفقيرة. ومما يحسب لصالح تلك الجهود, أنها ربما تشير إلى حدوث تغيير في أداء البنك الدولي ومؤسساته. ومن خلال المؤتمر الصحفي المذكور الذي عقد يوم الجمعة الماضي, أعلن قادة كل من الهند والفلبين وجمهورية التشيك, دعمهم لحملة الإصلاح الجديدة التي يقودها "بول وولفوفيتز".
ومن رأي هؤلاء أن البنك بحاجة إلى حماية قوية من قبل الحريصين على سمعته وأدائه قبل غيرهم. كما أن عليه إعفاء الدول الفقيرة من الديون السابقة التي منحت للطغاة والأنظمة الديكتاتورية. أما من الآن فصاعداً, فلابد من إخضاع القروض التي يقدمها لتلك الدول, لإشراف ورقابة البرلمانات المنتخبة شرعياً وديمقراطياً في كافة الدول الفقيرة والنامية. كما أن على البنك, النظر في إجراء تحقيقات بشأن الفساد في بعض البلدان, لاسيما ذلك الذي يشمل الشركات المتعددة الجنسيات.
وكما جاء على لسان "سميتو كوثري" –مدير الموارد الثقافية البينية- وهي مجموعة أبحاث غير ربحية مقرها في العاصمة الهندية نيودلهي, فإن هذه المقترحات الهيكلية التي قدمها الأعضاء, تعد خطوة ذات أهمية فائقة في الارتقاء بأداء البنك الدولي وتعزيز دوره التنموي. وفي حين تحاشى "كوثري" انتقاد "وولفوفيتز" على حجبه لقرض بقيمة 660 مليون دولار, مخصص للبرامج الصحية الهندية الموجهة للنساء والأطفال وضحايا مرض السل الرئوي, بسبب ممارسات الفساد المحيطة بتوريد وشراء الأدوية والعقاقير الطبية, يلاحظ أن وزير الصحة الهندي, الدكتور "أنبوماني رامادوس", وصف قرار "وولفوفيتز" بتجميد ذلك القرض, بأنه غير عادل, ولا يتسق وحقيقة أن الهند تعد أكبر دولة مقترضة من البنك الدولي. وعلى الرغم من أن ذلك القرار ربما يكون قد أثار في حينه حفيظة الهند تجاه أي تدخل أجنبي في شؤونها الداخلية, بما في ذلك "بول وولفوفيتز وقروض مؤسست