بعث مشهد زعيم الحرب الليبيري السابق تشارلز تايلور الأسبوع الماضي، وهو مكبل اليدين ماثلاً أمام محكمة لجرائم الحرب بدعم من الأمم المتحدة، برسالة قوية إلى العالم مؤداها أن الطغاة والمستبدين ليسوا فوق قوة القانون. إن تايلور يستحق أن يحاكم ويعاقب جزاء له على دوامة العنف التي كان وراءها –ليس في ليبيريا فحسب، بل في منطقة غرب إفريقيا برمتها. كما أن لضحاياه كل الحق في طلب الإنصاف والعدالة.
بيد أن النظر إلى القضية من زاوية أخلاقية فقط، قد يجعل المراقبين لا ينتبهون إلى بعض الجوانب المعقدة التي تنطوي عليها القضية، ليس بالنسبة لليبيريا فحسب، وإنما كذلك لكل الدول التي عانت ويلات الحروب في أماكن أخرى من العالم وكافحت من أجل التعاطي مع تركة الماضي، محاولة في الآن نفسه بناء مستقبل يسوده السلام.
ويتساءل زعماء العديد من الدول التي تعيش هذه الفترة الانتقالية الصعبة بشأن الحكمة من وراء الضغط بقوة مفرطة وبسرعة كبيرة على زر العدالة. والواقع أن قلقهم مشروع، في العديد من الحالات، إذ يخشون أن تعمل المحاكمات على إحياء مشاعر الكراهية من جديد أو دفع الأطراف المتناحرة إلى الابتعاد عن طاولة المفاوضات.
وبالنسبة لرئيسة ليبيريا الشجاعة "إيلين جونسون سيرليف"، فإن السعي إلى تسليم تايلور كان دعوة محرجة جداً. وقد شكل نفيه إلى نيجيريا أساس اتفاق السلام الذي وضع حدا للحرب الأهلية في ليبيريا في 2003. وتثير محاكمته المقبلة –سواء في سيراليون أو في لاهاي- قلقاً واضحاً رغم الإشادة التي حظيت بها. إذ يحذر بعض المراقبين السياسيين من احتمال قيام أنصار تايلور برد فعل عنيف، من شأنه أن يغرق ليبيريا والمنطقة برمتها من جديد في أتون صراع قد يكون مدمراً. والحقيقة أن هذا هو آخر ما تحتاجه ليبيريا، ذلك البلد الفقير والمنكوب الذي لم يمض على خروجه من الحرب الأهلية سوى ثلاث سنوات.
وعليه، فما الذي ينبغي أن يحظى بالأولوية، السلام أم العدالة؟ وهل من الضروري أن يتحقق أحدهما على حساب الآخر؟ الواقع أن ليبيريا ليست البلد الوحيد الذي مزقته الحرب، كما أنها ليست المكان الوحيد الذي يمكن إيجاد أجوبة فيه على هذه الأسئلة:
- لقد قاومت حكومتا تيمور الشرقية وإندونيسيا، على سبيل المثال، اقتراح تنظيم محاكمة دولية للنظر في عمليات القتل التي جرت في 1999 والتي ميزت فترة السعي إلى الاستقلال، واعتبرتا أن من شأن المحاكمات أن تغذي مشاعر العداء وتنسف التقدم الذي تم إحرازه على درب تحقيق المصالحة.
- وفي أفغانستان ثمة دعوات تنادي بضرورة محاكمة زعماء الحرب، ولكن ثمة تحذيرات في الوقت نفسه من أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى إضعاف السلام الهش في البلاد. وقد أعرب البعض عن قلقهم في العراق أيضاً من أن تذكي محاكمة صدام حسين التوتر الطائفي.
الأكيد أنه تحت مفهوم "العدالة الانتقالية" الذي ما فتئ يتطور، يمكن جدولة المحاكمات على مدى فترة زمنية إلى أن يبدأ السلم في التجذر والترسخ. وبعبارة أخرى، يمكن تأخير العدالة لفترة محدودة من الزمن –شريطة ألا يتم إنكارها. وعلاوة على ذلك، لم يعد الكثيرون ينظرون إلى المحاكمات اليوم باعتبارها الحل الوحيد، ذلك أنها تمثل إجراء واحداً بالغ الأهمية من بين جملة تدابير أخرى هدفها التعاطي مع الماضي من قبيل: لجان الحقيقة، وعمليات جبر الضرر، والاعتراف الرسمي بالمسؤولية، والندم على ارتكاب الخروقات.
وبصفتي رئيساً حالياً لقسم حفظ السلام التابع للأمم المتحدة، يمكنني أن أجزم بأن وجهات نظر عديدة ما لبثت تتطور أيضاً داخل الدوائر الدبلوماسية. فهناك وعي متزايد بأن الحصانة غيرُ مقبولة أخلاقياً وسياسياً في هذه الحالات، كما أنها تشكل قاعدة هشة لا يمكن بناء السلام والديمقراطية عليها. ومما يجدر ذكره في هذا الإطار أن مبعوثي السلام الأمميين، على سبيل المثال، يتلقون تعليمات واضحة تمنعهم من الموافقة على اتفاقات تقضي بمنح العفو للضالعين في جرائم الإبادة الجماعية، أو جرائم الحرب.
ولئن كان من الصعب الجزم بأن زعماء الحرب والديكتاتوريين المقبلين لن يجدوا وسيلة للإفلات من أيدي العدالة، فإنني أعتقد أن حيز ذلك –محلياً ودولياً- آخذ في الانحسار، ببطء ولكن بثبات. أما الاختبار الكبير المقبل، فهو اليوم أمامنا في ليبيريا التي تستحق منا رئيستُها دعماً متواصلاً الآن وقد خطت الخطوة الجريئة الأولى على الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إبراهيم إي. غمبري
مساعد أمين عام الأمم المتحدة للشؤون السياسية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"