تثير التوترات وتصاعد حدة النبرة المتبادلة بين واشنطن وموسكو, مخاوف البعض من احتمال عودة هذين الخصمين التقليديين, إلى حقبة جديدة من الحرب الباردة المدفوعة بوقود الأيديولوجيا. وفي حين ترجح غالبية الخبراء والمراقبين, أن ما يحدث الآن بين العاصمتين, إنما هو تعبير عن حالة مثيرة للقلق من الانزلاق إلى مواجهة أيديولوجية جديدة بينهما, فإن هناك من يرى في المقابل, أن في وسع حدوث تغيير سياسي في كل من واشنطن وموسكو بحلول عام 2008, أن يضع حداً لهذا الانزلاق. أما من الجانب الروسي, فما أكثر المواطنين الروس الذين ينظرون إلى ما يحدث الآن بعيون قاتمة سوداء, بعد كل ما رأوا من ثقل وطأة النفوذ والتغلغل الغربي في بلادهم, منذ لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991.
وكما يقول "يفيجيني إيفانوف", المنظِّر الأيديولوجي لمجموعة "ناشي" الموالية للكرملين –وهي أكبر مجموعة سياسية شبابية في روسيا ما بعد العهد السوفييتي- فقد دأبت الولايات المتحدة الأميركية على بسط نفوذها في كافة جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق, عن طريق شرائها للقادة, وتدبيرها للانقلابات السياسية في تلك الجمهوريات. وفي تصريح "إيفانوف" هذا, إشارة واضحة إلى التحولات الديمقراطية و"الثورات الملونة" التي انتظمت كلاً من جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا, التي لم تعد تواصل الدوران حول فلك موسكو مثلما كانت تفعل سابقاً. ومن رأي "إيفانوف" أن نمط العولمة الذي تروج له واشنطن, هو من ذلك النوع الذي يرمي إلى انتزاع الحق في تقرير مصير العالم كله, وفق ما ترى أميركا.
ومن زاوية أخرى من المنظور الروسي, يبدي "فيودور سوفوروف" –وهو ضابط عسكري متقاعد- موافقته على ما ورد أعلاه بتساؤله قائلاً: ما الذي تفعله أميركا اليوم بجمهوريات الاتحاد السوفييتي؟ والإجابة أن سلوك واشنطن يبدو كما لو كانت تحمي مصالح لها في المكسيك! وكلما ازداد انحناء موسكو أمام الضغوط والأعاصير الأميركية, كلما تمادت واشنطن في الدفع بقوات حلف "الناتو", إلى عمق الأراضي الروسية. إلى ذلك فقد كشف استطلاع مستقل للرأي أجراه "مركز ليفادا" لاستطلاعات الرأي في موسكو, أن نسبة 57 في المئة ممن استطلعت آراؤهم من الروس, ترى أن الولايات المتحدة الأميركية, تمثل تهديداً حقيقياً للأمن والسلم العالميين, بينما كان رأي حوالى 33 في المئة فحسب, عكس ما رأت الأغلبية.
والذي حدث في تلك الحرب الباردة طويلة الأمد, التي استمرت بين المعسكرين الشرقي والغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وحتى لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991, هو تبادل كل من واشنطن وموسكو إلقاء اللوم إحداهما على الأخرى, فيما يتعلق بالصدع الحاد الذي كان يفصل بينهما.
يذكر أن تقريراً صدر مؤخراً عن "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي, أشار إلى ما أسماه بـ"خطأ الاتجاه الروسي" في ظل قيادة الرئيس الحالي "فلاديمير بوتين". وأورد التقرير قائمة وصفية مطولة بتلك الأخطاء, شملت فيما شملت, تزايد المنحى الشمولي في حكومة "بوتين", واستخدام الطاقة الروسية سلاحاً وأداة لاستئساد موسكو على جيرانها مثل أوكرانيا. كما شملت الأخطاء أيضاً, اتهام موسكو بإشاعة السياسات المعادية لأميركا في عدة مناطق ودول مجاورة, منها إيران ومنطقة آسيا الوسطى السوفييتية السابقة.
وفي الوقت ذاته, فإن تقريراً أميركياً آخر عن حقوق الإنسان, صدر من وزارة الخارجية الأميركية, اتهم الكرملين بتهميش البرلمان الروسي, وتقييد لحرية الصحافة, ولي ذراع القضاء, ومضايقة المنظمات غير الحكومية. ثم جاءت مسودة خطة الأمن القومي, التي أعلن عنها البيت الأبيض في منتصف شهر مارس المنصرم, لتحذر صراحة من احتمال عرقلة ما أسمته بـ"جهود موسكو الرامية إلى كبح التحول الديمقراطي في الداخل والخارج", لتطور واتساع دائرة علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وجيرانها على حد سواء. وكما جاء في تعليق للمحللة ماشا ليبمان –من مركز كارنيجي في موسكو- فإن مما لاشك فيه أن تحولاً ما في السياسات يجري الآن. ونعني بهذا التحول, اتجاهاً سيئاً وسالباً, باتجاه حدوث تدهور في العلاقات بين موسكو وواشنطن, وليس مجرد فتور أو برود فحسب.
غير أنه يتوقع للحظة الحاسمة أن تقع في شهر يوليو المقبل, لدى استضافة روسيا لقمة مجموعة الدول الثماني الكبرى, في مدينة سان بطرسبورج. ذلك أن الخبراء والمراقبين يرون أن الرئيس "بوتين" يعلق آمالاً عريضة, فيما يتصل بموافقة تلك القمة على انضمام روسيا إلى النادي الديمقراطي الغربي. غير أن المشكلة هي تزايد عدد الساسة الأميركيين الجادين في حثهم للرئيس بوش على مقاطعة تلك القمة. ومن هؤلاء السيناتور جون ماكين –من ولاية أريزونا- الذي صرح خلال لقاء تلفزيوني أجري معه مؤخراً, بأن بريق الديمقراطية يبدو خافتاً للغاية في موسكو, ولذلك فستجيء انتقاداتي لها, حادة وقاسية للغاية.
ومن جانبهم فقد شكا عدد من المسؤولين الروس من أن سعي بلادهم للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية –وهو ا