هل اشتعلت الحرب الأهلية حقاً في العراق؟ وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ينفي ذلك، وسفير الولايات المتحدة لدى العراق زلماي خليل زاد يقر بأن "الاحتمال غير مستبعد". لكن رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي بدا حاسماً عندما قال "إذا لم نسمِّ 60 قتيلاً يومياً بالحرب الأهلية، فماذا نسميها إذن؟". غير أن الحروب الأهلية نادراً ما تأتي دفعة واحدة، بل تتطور تدريجياً حتى تكتسح المجال وتحرق الأخضر واليابس. لذا لم يكن غريباً أن يطرح المراسلون الأجانب، وأنا من بينهم، السؤال ذاته إبان الحرب الأهلية اللبنانية. فعندما بدأت الشرارة الأولى للصدامات الطائفية في لبنان لم تكن سوى عمليات متفرقة وغير منظمة، لكنها ما فتئت أن تصاعدت حدتها واقتربت من قلب العاصمة بيروت معلنة بداية حرب أهلية مدمرة. ومع ذلك ظل العديد منا متمسكا بأهداب تفاؤل ما منعنا من تصور الأسوأ.
اليوم نعرف كم كنا ساذجين في تفاؤلنا، وربما لهذا السبب أجدني أميل أحياناً إلى تشاؤم مفرط عندما أتأمل ما يجري حالياً في العراق. فما شهدته الحرب اللبنانية من فظائع كالقتل على الهوية، وتفجير المباني السكنية من قبل الميليشيات المتقاتلة، لا يضاهى بما يجري في العراق. فقد تجاوز العنف المستشري في بلاد الرافدين ما كان سائداً في الحرب اللبنانية في ظل مشاهد التفجيرات المروعة التي طالت الأماكن المقدسة، وهو نادراً ما حدث أيام الحرب الأهلية اللبنانية. واللافت أن الحرب اللبنانية كانت دائماً حاضرة في أذهان المعلقين العرب عند حديثهم عن الحالة العراقية، حيث توقعوا بكثير من المرارة "لبننة العراق" كنتيجة لا مفر منها للصراع الداخلي. والأكثر من ذلك كانوا يشيرون إلى التداعيات المحتملة للحرب الأهلية العراقية، والتحذير من امتداد نيرانها إلى باقي الدول العربية المجاورة.
وإذا كانت الجامعة العربية قد استطاعت بمساعدة المجتمع الدولي تطويق لهيب الحرب الأهلية اللبنانية وإخماد فتيلها بفضل الضغوط التي مارستها الدول العربية على الأطراف المتصارعة، فهل يحالفها الحظ هذه المرة وتنجح في حل أزمة بلد عربي محوري مثل العراق؟ كتب مدير تحرير صحيفة "الحياة" العربية غسان شربل على صفحات جريدته: "العراق يثوي عميقاً في الضمير العربي وفي حسابات العرب المستقبلية. كما أن شرايينه متداخلة مع جيرانه العرب، فضلاً عن أن آلامه وطموحاته تتخطى حدوده المرسومة في الخريطة. لذا فهناك العديد من العوامل تمنع العراق من الانتحار دون تدخل من أحد". لكن إذا كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد وقفت عند الحدود اللبنانية ولم تنتقل إلى البلدان العربية المجاورة، فذلك لأن لبنان بعيد عن نموذج البلد العربي السائد. فقد دارت الحرب اللبنانية بين الميلشيات المارونية المسيحية وباقي الطوائف كالسُّنة والدروز والشيعة. والحال أنه لا يوجد في العالم العربي سوى نسبة ضئيلة من المسيحيين، وبالخصوص المارونيين، وهو ما حال دون اتساع رقعة المواجهات خارج لبنان.
وبخلاف ذلك يعتبر العراق سواء من حيث تشكيلة نخبته الحاكمة، أو هوية الفرقاء الأساسيين، أكثر تمثيلاً للبلدان العربية. فقد كان صدام حسين مثال المستبد العربي الذي وظف الطائفية من خلال السيطرة السُّنية على السلطة للبقاء في الحكم. لذا فإن العراق مرشح ليتحول إلى نموذج للدولة العربية بسبب التقاطعات الموجودة بين العراق وجيرانه متمثلة في وجود أكبر قوتين راديكاليتين هما الأكثر إثارة للاضطرابات، وتتمثلان في: الطائفية، والإيديولوجية الإسلامية.
وإلى ذلك يسود في المنطقة العربية خطاب يميل إلى تشبيه المحنة العراقية بالتقسيم الذي خضع له الشرق الأوسط في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى بموجب اتفاقية "سايس- بيكو"، حيث تم ترسيم حدود عشوائية في منطقة تربطها أواصر عرقية وطائفية وقبلية متداخلة. وليس غريباً والحال هذه أن يرى بعض المحللين أن الاضطرابات الجديدة قد تعيد رسم الحدود مجدداً وتصحح ما قام به الاستعمار. وقد تكون البداية من سوريا التي ستمتد إليها النيران عبر البوابة العراقية، حيث إنها الوحيدة من بين جيرانها المفتوحة على الأبعاد العرقية والمذهبية الموجودة في العراق. فمن جهة بدأ الأكراد في سوريا يشعرون بضعف النظام "البعثي"، حيث لن يترددوا في المطالبة بالانفصال والانضمام إلى إخوانهم الأكراد العراقيين إذا ما سقط النظام وعمت الفوضى. ومن جهة أخرى وإذا ما قدر للهوية الطائفية أن تتحول إلى مبدأ ناظم في السياسات العربية، قد تطفو على السطح سيطرة الأقلية العلوية على مقاليد الحكم منذ أربعين سنة. وبالنسبة للمجتمع السوري ذي الأغلبية السُّنية يعتبر حكم العلويين أكثر غرابة مقارنة بالحكم السُّني في العراق.
المنطقة الأخرى المعرضة للقلاقل بسبب ما يجري في العراق هي منطقة الخليج العربي، حيث توجد أقلية شيعية يُقال إنها تتعرض للتمييز. ولاشك أن تحرر الشيعة في العراق سيشجع شيعة الخليج على الجهر بمطالبهم في وجه الأنظمة القائمة. وليس الأردن بمنأى عن التداعيات ا