مرة أخرى يضيف المفكر العالمي البارز وأستاذ اللسانيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نعوم تشومسكي كتابا جديدا إلى رصيده الحافل بالمؤلفات التي اشتهرت بانتقادها اللاذع للولايات المتحدة وسياساتها الخارجية في العالم. ورغم المضايقات ومحاولات التعتيم المتكررة التي تعرض لها المفكر الأميركي القدير، إلا أنه واصل بكل عناد انخراطه في السياسة الدولية مبتعدا قليلا عن مجال تخصصه علم اللغة. كتاب تشومسكي الذي نعرضه اليوم تحت عنوان "الدول الفاشلة: إساءة استعمال القوة والهجوم على الديمقراطية" لا يحيد عن المسار الذي اختطه لنفسه طيلة السنوات السابقة، وهو مسار المثقف الملتزم، أو "المثقف العضوي" حسب تعبير غرامشي، المسكون بهموم العالم، وهكذا ينطلق حاملاً على عاتقه مهمة الدفاع عن الديمقراطية وفضح سياسات بلاده وأهدافها الإمبراطورية التي تكشفت بوضوح منذ السنوات الأخيرة لبدء انهيار الاتحاد السوفييتي. ولأن تشومسكي من المثقفين الأحرار والشرفاء في العالم فقد جأر بمعارضته للسياسات الإسرائيلية واستنكر تنكيلها بالفلسطينيين ما جر عليه سخط شخصيات إسرائيلية ويهودية، حيث مازال يذكر كيف نعته الدبلوماسي الإسرائيلي المخضرم أبا إبيان بـ"اليهودي الكاره لنفسه".
هذه المرة يسعى الكاتب إلى تفكيك مفهوم الدولة الفاشلة الذي أطلقه بوش في معرض تبريره لحق الولايات المتحدة في التدخل في الدول الأخرى. فبالنسبة لتشومسكي ليس هذا المفهوم سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة من المفاهيم بدأت مع الرئيس رونالد ريجان الذي أطلق على الاتحاد السوفييتي السابق "إمبراطورية الشر"، ثم توالت التسميات والنعوت القدحية لتصل في عهد الرئيس كلينتون إلى تسمية "الدولة المارقة"، وأخيرا اسما "الدولة الفاشلة" و"محور الشر" اللذين أطلقهما الرئيس بوش في ولايته. لكن تشومسكي الذي خبر ألاعيب الإدارات الأميركية المتلاحقة ومراكز القوى المؤثرة في صياغة السياسة الخارجية الأميركية يدرج كافة تلك النعوت التي تفتقت عنها عقول المسؤولين الأميركيين في إطار لعبة التغطية على الهدف الرئيسي لأميركا والمتمثل في تسويغ تدخلاتها المختلفة على امتداد القرن العشرين وإقناع الشعب الأميركي بضرورة التدخل لحماية الأمن القومي الأميركي الذي لم يعد يعني في نظر تشومسكي سوى حماية المصالح الخاصة لمنتجي السلاح والشركات النفطية الكبرى.
ولكي يظهر زيف الادعاءات الأميركية التي تحاول التغطية على سياستها تحت رداء التسميات الفضفاضة ينكب المؤلف على إظهار تناقضات مفهوم "الدولة الفاشلة" وعدم تماسكه. وكبداية منهجية يعرف تشومسكي الدول الفاشلة كما تراها الإدارة الأميركية على أنها الدول غير القادرة، أو غير الراغبة في حماية مواطنيها من العنف أو الحروب. وهي دول تعتبر نفسها فوق سلطة القانون الدولي وحرة في شن هجوم على دول أخرى. وحتى في حال توفر تلك الدول على نظم ديمقراطية فإنها تعاني من "عجز ديمقراطي" يفرغ مؤسساتها الديمقراطية من مضامينها الحقيقية. وهنا يدعو تشومسكي جميع الأميركيين إلى التحلي بالشجاعة الكافية والنظر في المرآة وحينها لن يجدوا أمامهم سوى النموذج الفعلي لـ"دولة فاشلة" كما عرّفها ساستهم. العجز الديمقراطي الذي أورده تشومسكي يظهر بوضوح في الحالة الأميركية من خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2004 التي اعتبرها مساعدو بوش على أنها تفويض من الشعب الأميركي للاستمرار في سياسة بوش الخارجية. غير أن استطلاعات الرأي أكدت أن الأميركيين إنما كانوا يريدون اهتماما أكبر بمشاكلهم الداخلية، وليس الزج بهم في حروب غير ضرورية.
ويشير المؤلف إلى أن الدول الكبرى غالبا ما لجأت لاستخدام مفهوم "الدولة الفاشلة" طيلة عقد التسعينيات لتبرير استعمالها القوة بذريعة حماية سكان تلك الدول. وقد تزامن ظهور مفهوم "الدول الفاشلة" مع تحول جذري في الخطاب السياسي الدولي من التدخل الإنساني إلى التدخل لـ"محاربة الإرهاب" الناشئ في أعقاب 11 سبتمبر. ووفقا للمسمى الجديد أصبح العراق "دولة فاشلة" تهدد الولايات المتحدة بامتلاكها أسلحة الدمار الشامل وإيوائها للإرهاب. وأميركا التي تعرف الدول الفاشلة بكونها غير قادرة على حماية سكانها تخضع هي نفسها لهذا التعريف، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتهديد السلاح النووي. فقد عمدت الولايات المتحدة إلى الرفع من موازنة الدفاع لتصبح الدولة الأولى في العالم من حيث الإنفاق العسكري، كما انخرطت في أنظمة دفاعية معقدة تهدف إلى عسكرة الفضاء بالأسلحة النووية. ورغم معارضة الأطراف الدولية الأخرى الفاعلة مثل أوروبا وروسيا والصين، إلا أن القادة في واشنطن استمروا في عنادهم. وفي نظر تشومسكي لم يكن العالم ليصبح خطيراً إلى هذه الدرجة لولا الاندفاع الأميركي نحو التسلح المفرط الذي شجع الآخرين على اتباع النهج نفسه. وفي هذا الإطار تتحول الولايات المتحدة إلى "دولة فاشلة" إذ بدلا من أن تسهم في دعم السلام والأمن الدوليين وضعت الأمن العالمي وأمنها الداخلي على كف عفريت بسبب الانتشار المخ