أتيح لي في زيارة لأوروبا أن أحاور عدداً من كبار المثقفين الغربيين وأن أتأمل حجم الهوة الثقافية التي حفرها لنا الإعلام المعادي للعروبة والإسلام، وخطر نقص المعلومات في الذهن الغربي العام عن الإسلام، وحجم الزيف الذي يمارسه الحاقدون على الأمة وهم يرسمون لبلادنا صورة قاتمة تشوه الحقائق، وتجعل الباطل حقاً.
وفي الوقت ذاته استقرأت عن قرب لهفة بسطاء الناس في الغرب إلى معرفة الحقيقة، واستعدادهم لتصويب الآراء التي يبثها الإعلام عبر تدفق برامجي وإخباري لا يقابله أي حضور يذكر للثقافة العربية والإسلامية في الشارع الأوروبي. فالجاليات العربية أو المسلمة لا تملك وحدها أن تقدم أنشطة ثقافية قادرة على مقاومة الإعلام المتدفق من كل صوب وهو يثير العواصف والزوابع ضد العرب والمسلمين، فليس بوسع ندوة فكرية أو محاضرة محدودة الحضور في منتدى عربي أو إسلامي أن تؤثر في الرأي العام الأوروبي كما يمكن أن يفعل فيلم سينمائي ناجح أو حفل موسيقي راقٍ أو معرض فني مبهر، كما أن غياب الإعلام الناطق باللغات الأوروبية يضعف الحضور الفكري والسياسي للأمة. وقد أدركتُ أهمية الأنشطة الثقافية الضخمة وحجم تأثيرها الإيجابي على الرأي العام حين زرت مدينة "ليوبن" النمساوية قبل أيام، لأحضر افتتاح معرض فني عن الشرق والإسلام، تشارك فيه سوريا وبعض الدول العربية والإسلامية، وأسعدني الترحيب الشعبي الذي لقيه المعرض والاهتمام الرسمي الذي أحيط به، ولفت انتباهي احتفاء الصحف النمساوية بالأغنيات العربية التي قدمها فنانون سوريون ومصريون في حفل الافتتاح. وكان واضحاً أن باب الثقافة أوسع من باب السياسة للدخول إلى الوجدان الغربي ومحاورته، وهو على الصعيد العام وجدان حي، قابل للحوار، ولم يكن مفاجئاً بالطبع أن أجد الكثرة من بسطاء الناس يكادون لا يعرفون شيئاً عن حضارة العرب والمسلمين. والتقصير في تقديم المعلومات ليس مسؤولية شعبية فحسب، بل هو تقصير رسمي، ينبغي أن تفطن له الحكومات العربية والإسلامية وأن تسارع إلى حملة ثقافية مكثفة ونشيطة تقدم خطاباً ذكياً يوضح للغرب أننا نملك في بلادنا ثقافات وديانات متنوعة تتعايش بسلام وأمن وطمأنينة منذ قرون، وأن ما يحدث اليوم من فتن طائفية أو إثنية هو أمر مصطنع، يفتعله ويحرض عليه الساعون إلى تمزيق نسيج الأمة، ليحققوا مشروعاً معادياً أخطر ما فيه هو رسم خريطة جديدة لبلاد العرب والمسلمين، يتم فيها القضاء على الانتماء القومي والإسلامي وعلى العلامات المميزة للهوية العربية والإسلامية.
لقد كشفت فتنة الرسوم المعادية للرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، حجم التقصير في تعريف الغرب بنبي المسلمين، وينبغي أن يفيد العرب والمسلمون من الحادثة للقيام بنشاط جماعي حضاري يقدم الصورة الصحيحة الصادقة عن أعظم رجل عرفته الإنسانية، وعن الرسالة الحضارية التي دعا إليها. والعرب يقولون رب ضارة نافعة، والنفع هنا هو استغلال تشوق الغرب إلى معرفة الحقيقة، ولاسيما حين فوجئ الغربيون بطوفان الغضب الذي كشف للمتجاهلين عمق تقديس المسلمين لنبيهم العظيم عليه الصلاة والسلام. وكان من الممكن أن تفيد الأمة من ذكرى المولد بإقامة احتفالات دولية يتم فيها تصحيح الصورة التي شوهها الحاقدون، وإلقاء الضوء على الرسالة المحمدية التي وضعت أول نص لحقوق الإنسان، وأنصفت المظلومين وحررت العبيد وكرمت المرأة والطفل، ومجدت إنسانية الإنسان وحفظت له حريته وكرامته، وجعلت شعارها الذي يردده ملايين المسلمين صباح مساء: السلام عليكم. وليس لدى غير المسلمين في حضارات العالم كله، من يجعل دعاء السلام شعاراً وتحية يتبادلها الناس في كل لقاء أو وداع.
إنني أدرك أن بعض الناس قد ينتقدون هذا التبسيط الذي أقصده للمسألة، وسيرون أن القضية أشد تعقيداً، حيث يعتقد بعضهم أن العداء الغربي للعرب والمسلمين متأصل وتاريخي، وأن الغرب ما زال يعيش تحت الرماد الدبلوماسي المصطنع وتحت وهج الجمر الذي أذكى الحروب الصليبية قبل ألف عام، وأن التصريحات التي جاءت زلات لسان على ألسنة كبار القادة في الغرب، كشفت أن الجمر ما يزال ملتهباً تماماً. كما بدا ملتهباً في مطلع القرن العشرين حين تقاسمت أوروبا بلاد العرب والمسلمين، وسعت إلى إقامة إسرائيل في قلب الوطن العربي لتضمن بقاء العرب في حالة حروب وصراعات دامية تستنزف طاقتهم وثرواتهم.
وقد يرى بعضهم كذلك أن الغرب يخشى نهضة العرب والمسلمين من هوة التخلف، لأن هذه النهضة تثير قلقاً في أوروبا، ولاسيما بعد أن أصبح الإسلام حاضراً فيها، وقد تقدم شواهد ما حدث على مسمع العالم وبصره من إبادة منظمة للجيوب المسلمة في البوسنة والهرسك، وستكون الحجة أقوى حين لا يجد المرء تفسيراً لغياب المنطق والعدالة في السياسة الدولية التي ترسمها بعض دول الغرب التي تصمت عن جرائم إسرائيل اليومية، بل تتعاطف مع السياسة الإسرائيلية وتقف حتى ضد الديمقراطية التي جاءت بـ"حماس" إلى السلطة. لكنّ ذلك كله لا يحجب حقيقة كون الشارع العام في الغرب حضاري، وأنه وقف ضد الحرب