أذهلني تصريح الرئيس مبارك لقناة "العربية" بأن غالبية الشيعة العراقيين موالون لإيران وليس لبلادهم. وأوافق الذين قالوا إن الرئيس المصري كان في الحقيقة يقصد "الشيعية السياسية". ويفترض أن يقوم مسؤول مصري رفيع المستوى بتأكيد هذا التفسير لتصريح الرئيس مبارك وهو التفسير الذي يبدو أن بعض الصحف شبه الرسمية المصرية أخذت به. فليس من حق أحد بداهة أن ينفي عروبة الشيعة العراقيين ولا ولاءهم لبلدهم العظيم. ويعد الشيعة العراقيون مصدراً أساسياً إن لم يكونوا المصدر أو المنبع الأساسي لنهر غزير المياه وفائق الخصوبة يغذي الثقافة العربية ببعض أفضل ما فيها وخاصة في باب الشعر والحكمة والفلسفة والعلوم.
يفترض أن يسارع مصدر مصري مسؤول بتأكيد التفسير الذي أخذت به بعض الصحف المصرية ليس لأنه تشخيص واقعي سليم للشيعية السياسية, وإنما لأنه أقل ضررا بالعلاقات المتميزة بين الشعبين المصري والعراقي. فلو أن ثمة شيئاً اسمه "الشيعية السياسية" فهو ينطوي بالتعريف على ولاء سياسي للمذهب الديني بذاته وليس لأية دولة بعينها حتى لو كانت الدولة التي يعيش فيها أكثر الشيعة أو التي تعيش فيها أكثرية شيعية.
بالطبع هذه المناقشة تجريدية بحته لأن البداهة تقول بأن الغالبية الساحقة من الشيعة العراقيين, ومن غيرهم من أبناء الشعب العراقي يدينون بالولاء لبلادهم, وأن العراق ليس دولة مصطنعة كما يزعم البعض استنادا إلى ظروف وراثة الإمبراطورية العثمانية, بل هي دولة تاريخية بغض النظر عن تغير وتبدل الحدود عبر آلاف السنين, وهو ما حدث أيضا لجميع الدول التاريخية. والواقع أن هذه حقيقة واضحة إلى حد كبير, أما غير الواضح بالفعل فهو الطبيعة المتفلتة وقطعا غير البناءة للطائفية السياسية.
يبدو الغموض غير البناء في الطائفية على مستويات متعددة للحياة السياسية والفكرية للعراق اليوم. فعلى مستوى معين, يشعر المرء بالدهشة الشديدة لأن مختلف الفرقاء يدينون بعضهم بعضاً بالطائفية بحماس وعاطفية وعنف إطلاقي شديد يكاد يصادر كلية على أي حوار سياسي بين هؤلاء الفرقاء. وقد شعرت بصدمات متتالية وهائلة كل مرة كنت أشارك فيها في نقاش أو حوار ضم فرقاء الصراع السياسي في العراق, ونادرا ما أمكن المضي قدما في أي حوار بدون قدر عالٍ للغاية من التوتر والاتهامات المتبادلة بالطائفية.
يبدو لي الأمر محيراً وغامضاً إلى حد كبير, فجميع من عالج التطور القومي والاجتماعي للعراق بصورة علمية أكد على مدى قوة الحركة نحو الاندماج بين الشيعة والسُّنة العراقيين, وخاصة خلال الفترة الطويلة من ثلاثينيات حتى ثمانينيات القرن العشرين وهي الفترة التي شهدت تكون وتوطد الدولة العراقية. ويؤكد العراقيون من الطائفتين أن العلاقات بينهما كانت ممتازة, وأن ثمة آلافا من العوائل وبعض القبائل التي تختلط فيها الانتماءات. ومن ناحية ثانية, يصعب نظريا قبول الفكرة التي تقول بأن الاحتلال الأميركي هو الذي اصطنع هذه المشاعر الطائفية والعدائية العارمة. صحيح أن الاحتلال تلاعب بالطائفية, ولكن لو لم تكن المشاعر والمشروعات موجودة في الواقع لما كان الاحتلال نجح في تأجيجها على النحو الذي تأججت به الآن فعلا. ويصدق ذلك أيضا على أنصار السلفية المتشددين وخاصة من كوادر "القاعدة", فلو أنهم لم يجدوا هذا العدد المذهل من الراغبين في القيام بعمليات "انتحارية" لقتل إخوانهم الشيعة! لما تمكنوا من ارتكاب كل هذه المجازر الوحشية. ويصح الأمر نفسه بالنسبة للميليشيات الشيعية المتشددة والتي تنسب لها عمليات كثيرة للتصفية البدنية للمواطنين السنة. وبإيجاز, لم يكن من الممكن أن تصل الطائفية إلى هذا المستوى من الغضب والعنف والاندفاع لو أن بعض أصولها القوية لم تكن موجودة أو لم تكن قد تراكمت بسرعة وشدة خلال الأعوام التي تلت القمع الوحشي لانتفاضة مارس 1991.
ويضطر المرء إلى اللجوء للدراسات العميقة والزاخرة حول النزعة الإثنية لفهم الانتعاش السريع والعنف الهائل الكامن في الطائفية السياسية في العراق, حتى يمكنه أن يستنبط مخرجا من الأزمة المستفحلة التي يعيشها العراق العظيم والجريح. وقد توافقت هذه الدراسات على النظر إلى الطائفية السياسية كشكل من أشكال "النزعة الإثنية", وأنها تنشأ عندما يشعر الناس بأنهم يعاملون معاملة غير متساوية انطلاقا من ملامحهم الثقافية أو انتمائهم إلى طائفة بعينها. وبينما يعتقد كثيرون أن الشيعة أكثر فقرا من إخوانهم السُّنة, فليس من المرجح أن هذا التوافق بين الطبقة والطائفة هو السبب المباشر في اشتعال الطائفية, إذ واقع الأمر يقول بأن الفئات الثرية والمتعلمة من الطائفتين أكثر تأثرا بنزعات العداء المتبادل عن الفئات المحرومة منهما. ومن المرجح أن الفئات الأقوى من حيث المكانة والموقع السياسي هي الأكثر انخراطا في مشاعر طائفية عنيفة. ويتفق هذا الميل مع نظرية تنسب النزعات الإثنية لتجذر مشاعر رومانسية بخصوص الأصل والمصير, وربما الرسالة والدور, بين الفئات الأكثر تعليما وثقافة من الجماعات الإثنية, أي