يبدي البعض تشاؤمه الشديد إزاء مستقبل التسوية السياسية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بعد المتغيرات الراهنة في ساحة هذا الصراع سواء تلك المتمثلة في فوز "حماس" بالأغلبية المطلقة لمقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني أو توقع تشكيل ائتلاف حكومي جديد في إسرائيل يقوده إيهود أولمرت الذي لم يخف نيته في ترسيم الحدود النهائية لإسرائيل من طرف واحد خلال عقد من الزمان. وهكذا يسود المتشددون الساحتين فكيف يمكن الحديث عن تسوية؟
الواقع أن التحليل السابق ربما كان منطوياً على مغالطة جوهرية لأن المتتبع لتسلسله المنطقي يبدو له وكأن ثمة عملية للتسوية السياسية كانت تشق طريقها بنجاح بين الإسرائيليين والفلسطينيين ثم جاءت المتغيرات الأخيرة لتوقف مسارها وتئد نجاحها، ولا بأس من إلقاء اللوم في هذا الصدد على "حماس" بالذات لمشروعها المنفصل عن الواقع ورفضها الاعتراف بإسرائيل (أي إسرائيل؟) وممانعتها في التخلي عن العنف (الذي تمارسه إسرائيل يومياً في الأراضي الفلسطينية) وتراجعها عن الاتفاقات الدولية (التي تخلت إسرائيل عن كثير منها في السابق وعلى رأسها في السياق الراهن اتفاقية أوسلو نفسها).
لكن حقيقة الأمر أن التسوية السياسية لم تثمر شيئاً في المسار الإسرائيلي- الفلسطيني وأنه حتى اتفاقية أوسلو التي مثلت نقطة تحول في هذا الصدد على الرغم من سوءاتها قد عادت إلى نقطة الصفر بعد تنكر إسرائيل لها اعتباراً من حكم ناتانياهو في 1996، والسبب في هذا العقم الواضح لعملية التسوية السياسية هو أن ما قدمته "التركيبة السياسية" الإسرائيلية عبر كل العهود لم يف بالحد الأدنى المطلوب فلسطينياً، وأن ميزان القوى يتسم بخلل شديد لصالح إسرائيل الأمر الذي يجعل من فرض حركة التحرر الفلسطيني لمطالبها عملية تاريخية معقدة تحتاج نضالاً بكل الوسائل الممكنة على نحو يتسق وما نعرفه عن الخبرات المعاصرة لحركات التحرر الوطني.
يعني ما سبق أن الحديث عن الفرص التي سبق أن ضيعها الفلسطينيون في مسار التسوية حديث مغلوط بدوره، وأن الفلسطينيين لم يكونوا مطالبين بقبول ضياع أكثر من نصف أرضهم لمجرد أن الحركة الصهيونية نجحت في استصدار قرار التقسيم من الجمعية العامة في 1947، أو بالجلوس على مائدة المفاوضات مع إسرائيل لمجرد أن السادات قد فعل ذلك في سبعينيات القرن الماضي. ولم تكن إسرائيل لتسمح لهم بذلك على أي حال، أو بقبول عرض باراك في كامب ديفيد 2000 الذي كان ينطوي على "مخالصة نهائية" بين الإسرائيليين والفلسطينيين مقابل فتات يأخذونه في القدس وقضية اللاجئين.
أما "حماس" التي يحاول الكثيرون أن ينسبوا لها وليس لإسرائيل مسؤولية الإجهاز على عملية التسوية التي لم تمض في طريقها المرسوم أبداً فإن مؤشرات سلوكها على العكس تكشف عن قبول للتسوية من حيث المبدأ. لنتذكر أولاً فكرة الهدنة الطويلة مع إسرائيل التي كانت "حماس" تعرضها إذا تحققت تسوية مرحلية تلبي المطالب الفلسطينية. ولنتذكر ثانياً أن المنطق يفترض أن قادة "حماس" يعلمون جيداً أنهم خاضوا انتخابات نصت عليها اتفاقية أوسلو بمعنى أنهم –حتى وإن لم يعلنوا ذلك- أصبحوا جزءاً من عملية سياسية وأنهم إذا وصلوا إلى الحكم لا يعقل أن يكون هدفهم هو التخطيط لحرب "نظامية" مع إسرائيل ستكون نتيجتها بديهية، أو الاستمرار في المقاومة بعد أن أصبح جسد "حماس" مكشوفاً أمام الضربات الإسرائيلية في صورة "مجلس وزراء" و"مجلس تشريعي" وما إلى ذلك. يتسق مع هذا أن خطاب "حماس" الانتخابي كان عقلانياً، وأنه كان يرفع على سبيل المثال شعار "نفاوض أفضل من غيرنا"، ويتسق معه كذلك أن "حماس" ما عادت ترد على العمليات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة أو تعد "برد مزلزل"، بما يعني أنها تعي جيداً أن دورها الجديد يفرض عليها مسؤوليات سياسية بعينها. وأخيراً وليس آخراً فإننا يمكننا أن نسوق الحديث الملتبس عن قبول "حماس" لفكرة الدولتين، خاصة وقد لوحظ أن المتحدث الرسمي باسم الحكومة الفلسطينية وإن رفض أن تكون تصريحات رسمية قد صدرت بما يفيد هذا القبول إلا أنه في الوقت نفسه لم يرفض الفكرة من حيث المبدأ، بدليل أنه طالب بمعرفة التفاصيل عنها. أما التشدد المنسوب لـ"حماس" بمعنى أن سقفها في التسوية أعلى من سقف من سبقوها فإن ذلك على العكس يمكن أن يكون عاملاً مساعداً في جهود التسوية. ألم يقل مسؤولونا دوماً إن اليمين الإسرائيلي المتشدد هو أفضل من ينجز تسويات؟ فلماذا لا يكون لمتشددينا بدورهم تأثير إيجابي على مسار التسوية؟
التسوية إذن كانت مفقودة دائماً وربما زادتها المتغيرات الإسرائيلية والفلسطينية الأخيرة صعوبة ليس لأن "حماس" رافضة للتسوية ولكن لأن السياسة الإسرائيلية ما زالت غير مؤهلة للتسليم بالحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين ولأن التركيبة السياسية التي ستفرزها الانتخابات التشريعية الأخيرة ستفضي إلى حكومة أكثر "تشظياً" من سابقاتها على نحو لا يجعلها في وضع أمثل لاتخاذ قرارات حاسمة حتى في مجال الترسيم النهائي للحدود من جانب واحد. وللأما