معنا الأستاذ (إبراهيم عفلق) من السعودية كاتب في جريدة الجزيرة" هكذا تحدث الأستاذ زاهي وهبي في برنامجه ذائع الصيت "خليك بالبيت" في تقديمه لأحد المتصلين من السعودية الذي داخل في البرنامج معلقا على كلام الأستاذ تركي الدخيل ضيف اللقاء عن ابن لادن في حلقة الأسبوع الماضي.
كالعادة بدأ المتصل "عفلق" بالسلام والتحايا الحارّة لزاهي وثنى بسؤال تركي عن أحواله وأخباره، لقد كان يهيئ نفسه لإلقاء قنبلته، ثم قال مجيبا لسؤال تركي عن كونه يعتبر بن لادن شيخا، "نعم بن لادن شيخ وليس خنـ .. ومخنـ.. وقحـ.. زيك (مثلك)" وفجّر قنبلته على الهواء مباشرة.
لقد كانت شتيمة مقذعة على الهواء، من بشاعتها أن الكثيرين تناقلوها فيما بعد، بل لقد تبرّع بعضهم بإنزالها على شكل ملف مرئي على شبكة الإنترنت.
البرامج الحوارية التي تبث على الهواء مباشرة تعاني مشكلة مع بعض المتصلين الذين لا تكون لديهم روادع أخلاقية عن التحدث بالبذاءات والكلام الساقط، وهذا أمر طبيعي بحكم أن هذه البرامج انعكاس لما هو موجود على الأرض، والموجود على الأرض فيه مثل هذه النماذج قلّت أو كثرت.
هذا الاتصال المتدني في أدبه لم يكن الأول ولن يكون الأخير بطبيعة الحال على شاشة الفضائيات، ونتذكر في هذا السياق كيف أن سعوديا آخر اتصل بمذيعة لبنانية تجري حوارا مع فنان سعودي وأسمى نفسه بـ"ضرّاب..." وهو تعبير بلغة محلية عن العملية الجنسية، واتصل سعودي آخر بالفنان جواد العلي وقال كلاما موغلا في البذاءة في حقه، كما اتصل كويتي على فنانة لبنانية يسألها عن مقاس "البكيني" الذي تلبسه، وحين دخلت المرأة على الخط اتصلت فتاة سعودية بالفنانة سارة على الهواء وقالت فيها من الشتائم ما لا يمكن تسطيره هنا.
السؤال الذي يثيره هذا السرد غير المستقصي لمثل هذه الحوادث هو: لماذا هذه الاتصالات يأتي كثير منها من السعودية ومن الخليج بنسبة أقل؟
اللغم الكامن في السؤال أنه يوحي بنفس عنصري أو إدانة جماعية لمجتمعات أكثر أهلها شرفاء يتوارثون قيما وأخلاقا سامية، لكن هذا النفس وهذه الإدانة بالتأكيد غير مقصودين هنا خصوصا ومطلِق هذا السؤال سعودي وخليجي في ذات الوقت.
هذه الظاهرة البذيئة لا تقتصر على بعض متصلي البرامج الحوارية فقط، بل إن منتديات الإنترنت تمثل نموذجا آخر، والإيميلات تشكل نموذجا أيضا.
في المنتديات الحوارية نجد نماذج أكثر إيغالا في البذاءة واستخدام الألفاظ النابية، وفي رسائل الإيميل التي ترد علينا نماذج مشابهة، والمثير للدهشة أن استخدام هذه الألفاظ والكلمات والمعاني محرّم شرعا، ومطلقوها يعتقدون أن حديثهم بهذا الشكل يخدم الدين ويدافع عن الشريعة، وتلك هي المفارقة، ولا زلت أذكر "إيميلا" وصلني من أحد المنتمين لتنظيم "القاعدة" في السعودية يهددني فيه بالقتل، وقد قدّم له بمقدمة من الشتائم التي لا يمكن أن يقولها مسلمُ عادي فضلا عمن يقدّم نفسه كمسلم متديّن وحريص على الجهاد!.
لقد تخرّص البعض وضربوا أودية في تحليل شخصية المتصل الشتّام، فقال البعض إنه غير متدين لكنه متعاطف مع "القاعدة"، وقال البعض إنه لا يمثل الفكر المتدين الذي تنتمي له "القاعدة"، واستنكر عقلاء المتدينين ذلك.
عندما نعود أدراجنا للخلفية الدينية والفكرية التي ينتمي لها "إبراهيم عفلق"، نجد أن مثل هذه العبارات منثورة ذات اليمين وذات الشمال، وأن "ثقافة الهجاء" تمثل عنصرا أساسا من تلك المنظومة الدينية والخلفية الفكرية.
الأمثلة تؤكد القاعدة أو تنفيها، والأمثلة في هذا السياق كثيرة جدا، سأورد بعضها باختصار، القاضي بلال بن أبي بردة يشتم الحجاج بحضور العلماء والفقهاء والقضاة والخليفة سليمان بن عبدالملك فيقول عنه إنه "يتزين تزين المومس"، و عالم آخر يصف فرقة المعتزلة بأنهم "مخا... الجهمية"، وآخر يصف الأشاعرة بأنهم "مخا... المعتزلة"، مع خلاف بين هؤلاء العلماء في تحديد أي فرقة هي "مخا..." الفرقة الأخرى، وعالم كبير يقول عن الفقيه أبي ثور "أبو ثور كاسمه"، وعالم قريب يصف فرقة إسلامية كاملة بأنهم "أولاد زنا".
وفي عناوين الكتب شيء من هذا فبعضهم يرد على الإمام محمد عبده بكتاب عنوانه "بلايا بوزا" وهو تعبير جنسي صارخ، وآخر يرد على القرضاوي بكتاب اسمه "إسكات الكلب العاوي"، وعبدالعزيز الجربوع أحد المنتسبين للسلفية الجهادية في السعودية يكتب كتابا أسماه "الوارف في مشروعية التثريب على المخالف" ويجمع فيه شتائم الأولين والآخرين طبعا من الصالحين لأنه يريد أن يثبت مشروعية الشتم والهجاء والكلام البذيء دينيا.
فتجدهم ينسون سيرة الرسول العطرة وأصحابه الأطهار وينسون حسن تعاملهم وكمال أدبهم وسمو أخلاقهم، ليحدثوك أن أبا بكر قال "امصص بظر اللات" وأن حمزة بن عبدالمطلب قال "يا مصفر أسته"، ويجمعون لك ما هب ودب من أخطاء السلف وشتائم التراث ليجعلوا منها منهجا دينيا مشروعا.
في هذا السياق لا يستغرب أن يكون المدعو "إبراهيم عفلق" متدينا وقاعديا وسلفيا لأن منظومته التي يعب من أوحالها تبرر ذلك وتدعو إليه وتنصره.