يتواتر في الخطاب السياسي الغربي بخصوص "الهولوكوست" مصطلح "revisionist" الذى يمكن ترجمته بكلمة "مراجع"، أي من يقوم بمراجعة المقولات السائدة ويقوم بتقويضها ورفضها. وتستخدم هذه الكلمة بطريقة قدحية للإشارة لأي باحث يقوم برفض التصور السائد للهلوكوست مثل أنها حدثت بالفعل، وأن الإبادة تمت بأفران الغاز، وأن "الهولوكوست" حالة فريدة فى تاريخ الإنسانية لا يصح مقارنتها بأي عمليات إبادة أخرى. ومن أهم التصورات السائدة التى يجب عدم مراجعتها أو التساؤل بخصوصها أن ضحايا "الهولوكوست" هم ستة ملايين يهودي. وقد سألني صحفي فرنسي ذات مرة: هل توافق على رقم ستة ملايين؟ فأخبرته أنه ليس رقماً مقدساً، ثم فاجأته بالقول: "ماذا لو قلت ان العدد هو ثمانية ملايين؟ هل أصنف ساعتها على أنني من المراجعين؟ أليس من الأجدى أن نفتح أبواب البحث العلمي على مصراعيها، حتى نصل إلى الحقيقة؟". وبطبيعة الحال لم ينشر الحوار. هذا الصحفي لم يسمع بمقال "بيتر ستاينفلس" بعنوان "مراجعة أوشفتس: حالة عالم إسرائيلي" والذي نشر في 12 نوفمبر 1989 بجريدة "النيويورك تايمز" الأميركية، وهو مقال في غاية الأهمية يؤثر الصهاينة، والعالم الغربي الذي يساندهم، تجاهله. يبدأ المقال بالإشارة إلى نقش حجري في "أوشفتس" جاء فيه أن "أربعة ملايين شخص ماتوا في معسكرات النازي"، وهى عبارة تكرر ذكرها حتى تحولت إلى ما يشبه "حقيقة إحصائية" صلبة في وجدان الكثيرين. ولكن "يهودا باور"، أحد أشهر مؤرخي "الهولوكوست" ومدير قسم دراسات "الهولوكوست" بمعهد اليهودية المعاصرة بالجامعة العبرية في القدس، يقول إن عدد الضحايا أقل من نصف هذا الرقم. فرقم الأربعة ملايين، مضافاً إليه عدد الضحايا في أماكن أخرى، ينتج في مجموعه النهائي عددا أكبر بكثير من الملايين الستة، وهم كل ضحايا الإبادة النازية ليهود أوروبا. ومن المعروف أن أكبر الأرقام التي تم نشرها تقدر العدد بـ2.5 مليون يهودي، و1.5 مليون ضحية أخرى، يفترض أن معظمهم من البولنديين. ولكن "يهودا باور" نشر مقالاً بجريدة "جيروزاليم بوست" في نهاية شهر سبتمبر 1989 وصف فيه هذه الأرقام بأنها زائفة بشكل واضح. ويتفق "يزرائيل جوتمان"، العالم الإسرائيلي، مع "يهودا باور" في هجومه على الاحصائيات المتداولة. وللعلم "جوتمان"، زميل "باور" في الجامعة العبرية، قاد حركة المقاومة السرية فى معسكر "أوشفتس"، وصاحب موسوعة من أربعة أجزاء عن "الهولوكوست". وقد بين "باور" أن المؤرخ اليهودي الفرنسي "جورج ويلرز" قدّر عدد الذين لقوا حتفهم خنقاً بالغاز أو بطرق أخرى أو تم تعذيبهم حتى الموت أو كانوا ضحايا لمجاعات أو أمراض بمعسكر "أوشفيتس" بـ1.6 مليون. وحسب هذه التقديرات، فإن 1.35 مليون منهم كانوا من اليهود. 83000 بولندي، و20000 من الغجر، و12000 سجين حرب سوفييتي. بالإضافة إلى 150000 بولندي تم حبسهم في معسكر "أوشفتس"، ثم تم نقلهم إلى أماكن أخرى، حيث لقي كثير منهم –وليس معظمهم– حتفهم.
ويرى "ايلان ستاينبرج"، المدير التنفيذي للمؤتمر اليهودي العالمي، أن الإحصائيات المبالغ فيها تم تكرارها، مما أدى إلى تقبل كثير من اليهود لها على الرغم من أن كبار العلماء لا يوافقون عليها. كما يؤكد "يهودا باور" أن مؤرخي "الهولوكوست" قد نبذوا الأرقام المتضخمة منذ سنوات طويلة، إلا أن ذلك لم يعلن للجماهير، وأنه آن الأوان للإعلان عن ذلك.
وفى محاولة لتفسير ظاهرة تضخم الأرقام يقول "باور" ان البولنديين الوطنيين والشيوعيين على السواء روجوا للأرقام الأكبر لخدمة أغراض سياسية، مبالغين في أعداد الضحايا البولنديين واليهود على السواء، بحيث أصبح الفرق بين مصير المجموعتين غير واضح ومبهما، مما أدى إلى خلط الأمور وطمس معالم الحقيقة. علاوة على أنه يجب التفريق بين ما يحدث لليهود وللبولنديين على يد النازيين دون التقليل من شأن اعتداءات النازيين على البولنديين، الذى كان يهدف إلى تدمير كيان قومي من خلال اغتيالات محددة لأعداد كبيرة تم اختيارهم من بين من قاوموا النازيين. وفى هذا الإطار تم اغتيال صفوة المثقفين البولنديين في المعسكرات، ومنها "أوشفتس". أما بالنسبة لليهود، فقد وضع النازيون خطة أكبر من مجرد تدمير قومية، فقد خططوا لإبادة عرقية. وثمة فرق بين الإبادة العرقية و"الهولوكوست" بمعنى تدمير كيان قومي. ثم يضيف "باور" أنه إذا أراد العالم أن يحارب كلاً من الإبادة وتدمير الكيان القومي، فعليه أن يتذكر جيداً الفرق بينهما. فأنت لا تعالج الكوليرا والسرطان بنفس الطريقة، بل تفرق بينهما، رغم أنهما مرضان قاتلان.
ويطرح السؤال نفسه، لماذا يصر "باور" على إعلان موقفه هذا، مع أنه عدو لدود لكل من ينكر "الهلوكوسكت"؟ للإجابة على هذا السؤال يتحدث "باور" بحماس بالغ عن دور المؤرخ وعن إغراء تكوين "خرافات وأساطير" قد تكون لها خطورتها على المدى الطويل. وهو يذهب إلى أن الواجب الأول لأي مؤرخ هو قول الحقيقة. وفى حالة "أوشفتس" الحقيقة مرعبة بما يكفى، ولذا فالمبالغة فى رقم الضحايا لن