تكابد أميركا اليوم في سبيل التوصل إلى سياسات أكثر توازناً في مسألة الهجرة إلى أراضيها. وحتى الآن فإنه لا يبدو لي مقنعاً البتة, اقتراح الرئيس بوش بالسماح لنحو أحد عشر مليون مهاجر غير شرعي, بالاستمرار في البقاء والإقامة هنا على تأشيرات العمل, ولا تلك السياسات المناهضة, التي يدعو لها أكثر تيارات "الجمهوريين" تشدداً, والمهووسة بهاجس الأمن الحدودي وحده. فالواقع أننا بحاجة للدمج والتوليف ما بين الخيارين والموقفين, وأعني بذلك أن نتوصل إلى ما يحفظ الأمن القومي, ويبقي أميركا مفتوحة وجاذبة للعدد الأكبر من المهاجرين في ذات الوقت. وقد يسألني أحدكم عن السبب, فأرد عليه بالقول إن عالمنا الحالي يجري تسطيحه اليوم أكثر من أي وقت مضى. وبالنتيجة, فإن عدد الذين تتاح لهم فرصة التعامل مع الأدوات التكنولوجية ذاتها من أجل الابتكار والاستثمار, هو في تزايد مستمر. وفي ظل هكذا عالم, فما أشد حاجتنا إلى تركيز القدرة على الإبداع والابتكار. ذلك أن تركيزاً كهذا, هو الذي يوفر البيئة المثلى للإدارة وللبحث ولوظائف المبيعات والتسويق, لأي شركة أو مؤسسة استثمارية جادة وطموحة.
وبسبب رسوخ ثقافة الهجرة فيها, فإن للولايات المتحدة الأميركية, مصلحة كبيرة في عالم كهذا. وفيما لو كنا من الذكاء بمكان, فإنه لا يزال في وسعنا الإفادة من خيرة الكفاءات والخبرات الذهنية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. بل بإمكاننا اجتذاب تلك الخبرات إلى داخل بلادنا, وإنشاء شركات واستثمارات جديدة بفضل عونها وموهبتها. وفي وسع أميركا التفوق في هذا على أي دولة أخرى, بلا منازع. ولنذكر أن مسيرة تطور المجتمع البشري قد عبرت من العصر الحديدي, إلى الثورة الصناعية, ثم منها إلى عصر المعلومات, لتصل أخيراً إلى عصر الموهبة والإبداع والابتكار. ومما لاشك فيه أن الكفة الرابحة والراجحة في عالم اليوم, ستكون من نصيب الدول الأكثر قدرة على استثمار الخلق والموهبة الإنسانية على وجه الخصوص.
هل يتساءل أحدكم عن السبب الذي يدفع الكثيرين للتنافس من أجل نيل الجنسية السويسرية؟ إنه ليس بالأمر السهل أن يصبح المرء سويسرياً. كما أنه ليس محض صدفة أن تكون الساعات هي أكثر المنتجات السويسرية شهرة ومبيعاً, وأن تكون سويسرا ثاني أكبر قبلة لتدفقات المهاجرين, وأن تتسم سياساتها الخاصة بالهجرة, بقدر كبير من المرونة والتسامح والتنافسية. وفي عالمنا المسطح هذا, أضحى في وسع الكثيرين المساهمة في رفع مستوى الأداء التكنولوجي. ولذلك فمهما يكن من جديد هذه التكنولوجيا, ومهما تكن دهشتنا إزاء ما تستطيع القيام به, فمما لا ريب فيه, أن تعود هذه الابتكارات إلى شخص أو مجموعة أشخاص ما, منتشرين في مختلف أنحاء المعمورة. والسؤال الوحيد الذي يجب إثارته هنا هو عما إذا كانت هذه الابتكارات التكنولوجية قد أنجزت من أجلك بواسطة آخرين, أم كنت أنت من ابتكرها وأنجزها؟ وفيما لو كان مجتمعك أكثر انفتاحاً أمام هجرة الأفراد والأفكار الجديدة, كلما كان ذلك المجتمع من يبتكر التكنولوجيا ويأخذ بزمام المبادرة في ذلك الابتكار, بدلاً من أن يكون مجرد مستهلك ومستقبل له.
لذا فإن علينا ألا نكتفي بمجرد ترحيبنا بالمهاجرين المتعلمين فحسب, بل لابد من استقطاب واجتذاب الأيادي العاملة كذلك. والسبب ليس هو حاجتنا الفعلية للعمال اليدويين, ولكن لكونهم يجلبون معهم طاقة, ما أشد حاجة بلادنا إليها. ولعل أفضل طريقة أوضح بها ما أعنيه, قول رجل الأعمال الأميركي- الهندي فيفيك بول: "إن هناك دافعاً قوياً يكمن في مجرد اتخاذ المرء قراراً بترك وطنه ومجتمعه الأصلي, للعيش في دولة أخرى. فلا يخطو إنسان ما هذه الخطوة -سواء كان طبيباً أم عاملاً بسيطاً- إلا وهو واثق أتم الثقة, من قدرته على تحقيق النجاح الذي ينشد". ولذلك فما أشد حاجة بلادنا للتدفق الثابت والمنتظم لمثل هذه الطاقة, لا سيما إن كانت قادمة إلينا من الهند والصين, لكل ما تسجله هاتان الدولتان بالذات, من طفرات كبيرة في مجال التكنولوجيا, ولما تزخران به من آمال وطموحات. وفي وسع المهاجرين مواصلة حقن الشريان الأميركي بمثل هذه الطاقة المتجددة الفوارة على الدوام.
وبالقدر ذاته, فإن إصدار عفو عما يتراوح ما بين 11-12 مليون مهاجر غير شرعي, ممن يعيشون بيننا الآن, ليس بالفكرة الصائبة ولا المثالية بأي حال من الأحوال, لكونه لن يفعل سوى مكافأة السلوك غير القويم والسوي. وبما أننا لن نقرر ترحيلهم جميعاً إلى حيث أتوا, فإننا على الأرجح بحاجة إلى قانون شبيه بـ"قانون آرلين سبيكتور", لكونه الخيار الأنسب للتعامل مع هذا الجيش الجرار من المهاجرين غير الشرعيين. وبموجب نصوص القانون المذكور, فإنه يحق للمهاجرين الذين كانوا هنا قبل شهر يناير من عام 2004, التقديم لتأشيرات عمل مدتها ثلاث سنوات, على أن تكون قابلة للتجديد عاماً واحداً لكل من السنوات الثلاث, فيما لو دفع المتقدم غرامة قدرها ألف دولار, ومر في الاختبار الأمني بسلام. وبعد مضي ست سنوات أخرى, وفيما لو سدد كل واحد منهم غرامة قدرها