في خطاب للرئيس الأميركي أبراهام لنكولن في أواخر القرن التاسع عشر أكّد أن أمّة نصفها من الأحرار ونصفها غير متحرر لا تستطيع تحقيق ذاتها. اليوم، وفي لحظتنا التي نعيش، يجب التذكير بأن أمة نصفها من المقاومين ونصفها الآخر غير ذلك، لن تستطيع إخراج نفسها من الورطة التاريخية التي أدخلتها فيها قوى الدّس في واشنطن وتل أبيب. نذكّر بذلك بمناسبة انعقاد مؤتمر شعبي من القوميين والإسلاميين واليساريين والليبراليين في بيروت لدعم المقاومات العربية في فلسطين والعراق ولبنان.
إن الإمبراطورية الأميركية الكبرى، ومن ورائها الصهاينة وبعض الأوروبيين وبعض العرب، تضغط بثقل هائل وبابتزاز على كل مكونات تلك المقاومة من "حماس" في فلسطين إلى "حزب الله" في لبنان إلى المقاومة في العراق. ذاك الضّغط الدموي، سيحتاج إلى أن تقاومه كل الأمة بمكوّناتها الرسمية والشعبية والمناطقية عبر الوطن الكبير. وهذا مطلب لن يتحقق إلا إذا أوجدنا أسلوباً في العمل السياسي العربي قادراً على حشد طاقات الأمة المقاومة عند الحاجة لها وإبّان الأزمات الكبرى التي نعيش واحدة منها في أيامنا هذه. تلك الخطوة تتجاهلها الأنظمة العربية على مستوى الجامعة العربية ومؤتمرات القمّة كما يعرفه الجميع، وتتجاهلها القوى السياسية الأهلية العربية على مستوى تلاقيها المشترك في مؤتمرات من مثل المؤتمر القومي العربي أو المؤتمر الإسلامي القومي أو مؤتمر الأحزاب العربية. وليس الهدف هو الانتقاص من قيمة وأهمية هذا الجهد أو ذاك التلاقي وإنما التذكير بأن كل تلك النشاطات الرسمية والشعبية لن تجدي لتخفيف ذاك الضّغط المرعب الذي تمارسه الأصولية الأميركية- الصهيونية.
دعنا نضع الأمر في صورة أخرى. إن أفراد المقاومة الثلاثية في الساحات الثلاث يجسّدون برأيي صفات البطولة والشجاعة. إن شجاعتهم لا تمثّلها فقط تلك القدرة النفسية الفذة على مغالبة الخوف في النفس البشرية التي نعرفها جميعاً. لكننا هنا نتكلم عن نوع خاص من الشجاعة. إنها الشجاعة البطولية التي تضحّي بالنفس وتتغلّب على الخوف، ليس من أجل تحقيق منافع شخصية ولا حتى من أجل تحقيق حلم أو أمل، وإنما من أجل خدمة الآخرين، من أجل خدمة الأمة كلّها. إنها الشجاعة التي تتغلّب على ألف عقبة يخلقها أعداء الأمة كل يوم وهي في سيرها الحثيث دون خوف أو تعب أو تراجع. وهي شجاعة البطولة التي تبقى أسمى وأنبل وأكثر فاعلية من بطولة أولئك الذين يتخيلوا معارك وهمية يخوضونها ضدّ العدو وهم يجلسون في كراسيهم الوفيرة في المقاهي والفنادق والمكاتب.
هناك في هذه الأمة من لا يرى أيّ فضيلة في هذه المقاومة. دعنا نذكرهم بقول لأرسطو أن "الشجعان يمارسون الفعل والنشاط باسم الشرف" دعنا نذكرهم أيضاً بأن الشجاعة البطولية تتجلّى في أوقات القنوط واليأس. دعنا نذكرهم بقول الفرنسي "فرانسوا رابيليه" من أن القاعدة العسكرية تقول بضرورة ألا يدفع أي جيش خصمه إلى مرحلة اليأس، إذ عند ذاك تطلّ الشجاعة برأسها لتقاوم ذلك اليأس.
اليوم، هل هناك يأس أكثر من الذي تشعر به الأمة العربية وهي تجابه الهجمة الأميركية- الصهيونية في كل أرجاء الوطن الكبير؟ إن هذا الدفع اليومي نحو القنوط الذي تمارسه على الأخص أميركا، يفجّر الشجاعة عند نفرٍ مقاوم في العراق وفلسطين ولبنان. هذا النفر القليل من الأمة، وهو ينجح في إفشال المخطّط الأميركي لتفتيت الأمة وامتصاص رحيق كل خيراتها، يستحق من الأمة أكثر من تصفيق وإعجاب. إنه يستحق كسر حاجز الخوف في قلوب الجميع لتمارس الأمة كلها، وليس المقاومة الثلاثية وحدها، شجاعة البطولة.