عندما ننتقل من مسألة النبوة كما ناقشها أهل السُّنة، معتزلة وأشاعرة وسلفيين، إلى مسألة الولاية كما طرحها الشيعة والمتصوفة، فنحن ننتقل من نظام معرفي بياني يتعامل مع ظاهر النص الديني، قرآناً وحديثاً، إلى نظام معرفي عرفاني يتعامل مع النص القرآني على أنه ظاهر وباطن، والظاهر فيه هو مجرد مطية للباطن. الظاهر لعموم الناس وأما الباطن فلخاصتهم. والمقصود بالخاصة هنا هم الأئمة عند الشيعة والأولياء عند المتصوفة ويجمعهم مصطلح "الولاية".
والولاية رئاسة، والرئاسة قد تكون دينية وقد تكون سياسية. الولاية الشيعية رئاسة دينية وسياسية معاً، أما الولاية الصوفية فدينية فقط. وقد تتحول إلى رئاسة سياسية أيضاً عندما ينخرط أصحابها في سلك الحكام فيكونون للحاكم "جنودا في الليل"، أو يثورون ضده كما حصل مع بعض الطرق الصوفية. وما يهمنا هنا هو موقع الولاية من النبوة عند كل من الشيعة والمتصوفة، وموقفهم من مسألة العصمة.
وعندما نتحدث هنا عن الشيعة فنحن نعني الشيعة الإمامية الإثنا عشرية. فهي تقول باثني عشر إماماً هم: علي بن أبي طالب وابناه الحسن، والحسين، وابن هذا الأخير علي زين العابدين، وابنه محمد (الباقر)، وابن هذا الأخير جعفر (الصادق). وابنه موسى (الكاظم) -ومنه تفرع المذهب الموسوي الاثنى عشري- وابنه علي (الرضي)، وابنه محمد، وابن هذا الأخير علي (الهادي)، وابنه الحسن العسكري، وابن هذا الأخير محمد بن الحسن (الإمام الغائب ويلقبونه بالحجة القائم المهدي، ولد سنة 255 هـ وغاب الغيبة الكبرى سنة 329 هجرية وينتظرون رجعته إلى اليوم). أما الشيعة الإسماعيلية –أو الفاطميون- الذين نقلوا الإمامة من الإمام السادس جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل وذريته فقد ذهبوا بعيدا في باطنيتهم فغرفوا من الفلسفة الهرميسية، ورفعوا أئمتهم أحيانا إلى مرتبة الألوهية.
وبالعكس من هؤلاء وأولئك: الشيعة الزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي اعترف بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان فرفضه باقي الشيعة فأطلق عليهم خصومهم اسم الرافضة. والزيدية لا تختلف عقائدها كثيرا عن مذهب المعتزلة. وهم كالإسماعيلية اليوم، أقلية بالنسبة للإمامية الإثنا عشرية (شيعة إيران والعراق، ولبنان).
الإثنا عشرية يقولون بالعصمة للأنبياء ولأئمتهم. والولاية في تصورهم "سلطة إلهية" خص الله بها الأنبياء والأولياء سواء بسواء. ذلك أن كل الفرق بين النبي والولي، حسب ما يروونه عن جعفر الصادق، أكبر الأئمة عندهم، هو أن النبي يحل له من النساء أكثر من أربع بينما لا يحل ذلك للولي (الإمام). أما ما عدا هذا، فالولي –أو الإمام- هو في منزلة النبي، يُبلِّغ عنه ويتحدث باسمه، وتعتبر تعاليمه من تعاليم النبي أو هي نفسها. ومن هنا يقرر علماء الشيعة أن الأحكام الشرعية الإلهية لا يصح أخذها إلا من الأئمة. أما أخذ الأحكام الشرعية من الرواة والمجتهدين، كما يفعل أهل السُّنة، فهو "ابتعاد عن محجة الصواب في الدين". ومن هنا كانت الولاية عندهم ركناً من أركان الإسلام، بل أول ركن فيه، والباقي تَبَع له.
على أنه إذا كان الشيعة يقرنون أو يساوون بين الولاية والنبوة فهم يميزون بين النبي والرسول. فالرسول هو الذي يوحى إليه ويكلف بتبليغ الرسالة، أما النبي والإمام فيوحى إليهما ولكن دون أن يكلفا بتبليغ رسالة جديدة، وإنما يشرحان رسالة الرسول الذي يندرجان في دوره. وهذه المرتبة الثانية هي مضمون "الولاية" عند الشيعة، إنها نبوة الإمام، وهي مستمرة ولم تختم، ولن تختم إلا بعودة الإمام الغائب، الثاني عشر. وأما ما ختم بمجيء "خاتم النبيين والمرسلين" محمد عليه الصلاة والسلام فهو الرسالة، وبالتحديد "نبوة التشريع" التي تتضمن بيان الفروض والأحكام، أما النبوة بمعنى تلقي الكلام الإلهي فهي مستمرة في أشخاص الأئمة.
تلك نظرة موجزة عن الولاية عند الشيعة في علاقتها بالنبوة، فلننظر الآن في الولاية عند المتصوفة، مقتصرين على الذين يصنفون أنفسهم داخل "السُّنة"، أما الذين اتجهوا بتصوفهم اتجاها "فلسفيا" فسنتحدث عنهم لاحقاً.
لقد كان من الطبيعي أن يبدأ المتصوفة السنيون كلامهم على "الولاية" بالعمل على تأسيسها شرعا، وذلك بالتماس سند لها من القرآن والسنة. فمن القرآن يذكرون قوله تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (يونس 62). وإذا كانت هذه الآية لا تحمل بالضرورة كل المضامين التي حملها الصوفية لمفهوم "الولاية" عندهم، فإن الحديث التالي الذي ترويه كتب الحديث المشهورة، يكاد ينطق بما يريدون. يقول الحديث: "إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله؟ وصِفهم لنا لعلنا نحبهم. قال عليه السلام: قوم تحابوا بروح الله من غير أموال ولا اكتساب، وجوهرهم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس". وإذا كان ليس من الضروري الشك في صحة هذا الحديث على مستوى السند، فإن المعنى الذي يضمِّنه له المتصوفة ليس من الضروري قبوله. فالهجويري مثلا –وه